تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كانوا شطر منهم حسناً، وشطر قبيحاً، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم ([11]).

إنما هو استدارج: وربما اتكل بعض المغترين، على ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا وأنه لا يغير ما به، ويظن أن ذلك من محبة الله له، وأنه يعطيه في الآخرة، أفضل من ذلك، وهذا من الغرور، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (الأنعام: 44) ([12])

وقد رد سبحانه على من يطن هذا الظن بقوله: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلا بل لا تكرمون اليتيم) (الفجر: 15 - 17).

وعنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب)) ([13]).

وقال بعض السلف: رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، وب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم.

لا تتعجلي عقوبة الذنوب: وهنا هنا نكتة دقيقة، يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فينسى، ويظن العبد أنه لا يغير بعد ذلك؟!! وسبحان الله!! كم أهلكت هذه النكتة من الخلق؟! وكم أزالت من نعمة؟! وكم جلبت من نقمة؟! وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء فضلاً عن الجهال، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقضي ولو بعد حين، كما ينقضي السهم، وكما ينقض الجرج المندهل على الغش والدعُل.

وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: اعبدوا ا لله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم، خير من كثير يطغيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا ينسى ([14]).

أعظم العقوبة ألا تشعر بالعقوبة:

واعلمي أختي أن للذنوب تأثيرات قبيحة مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافاً مضاعفة، والمجازي بالمرصاد لا يسبقه شيء ولا يفوته، فوا أسفاً لمضروب بالسياط ما يحس بالألم، ولمثخن بالجراح وما عنده من نفسه خير، ولمتقلب في عقوبة ما يدري بها، ولعمري إن أعظم العقوبة أن لا يدري بالعقوبة.

فواعجباً للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة، ثم يرضي ربه بطاعة ويقول حسنة وسيئة، ويحك من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين، رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يُستدرك.

ويحك، انتبه لنفسك، ما الذي تنتظر بأوبتك؟ وماذا تترقب بتوبتك، المشيب؟ فها هو ذا أوهن العظيم، وهل بعد رحيل الأهل والأولاد والأقارب إلا اللحاق، قدر أن ما تؤمله من الدنيا قد حصل، فكان ماذا؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً، ثم آخر جرعة اللذة فشرقة، وإما أن تفارق محبوبك أو يفارقك، فيا لها من جرعة مريرة تود عنده أن لو لم تره، آه لمحجوب العقل عن التأمل، ولمصدود عن الودود وهو يرى المذهل، أما في هذه القبور نذير؟ أما في كرور الزمان زاجر؟ نادهم في ناديهم: هيهات، صموا عن مناديهم، فلو أن ما بهم الموت؟ إنما هنيئة ثم القبور.

العمل حصل يا معدوماً بالأمس، يا متلاشي الأشلاء في الغد، بأي وجه تلقى ربك، أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب؟ بالله إن الرحمة بعد المعاتبة، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب، فكيف إن أعقب العتاب عقاب؟ ([15]).


([1]) يشدخ: يثلغ. ([2]) يتدهده: ينحط من علو إلى أسفل. ([3]) كلوب: خطاف. ([4]) فيشرشر شدقه: يقطع جانب الفم. ([5]) اللغط: الضجيج غير المفهوم. ([6]) ضوضوا: رفعوا أصواتهم مختلطة. ([7]) المرآة: المنظر. ([8]) يحش: يوقد. ([9]) معتمة: كثيرة النبت غطاها الخصب. ([10]) المحض: اللبن الخالص الذي لا شائبة فيه. ([11]) صعداً: صاعداً في ارتفاع كثير. ([12]) رواه البخاري. ([13]) صححه الألباني. ([14]) الزهد، الإمام أحمد. ([15]) صيد الخاطر.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير