تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حجاجَ بيت الله الحرام، إن هذا الاجتماعَ المبارك إبّان هذا النسك العظيم ليُعدّ فرصةً سانحة لاستشعار هذا التوافقِ الفريد واستلهامِ الحِكَم العظيمة التي شرِعَ الحجُّ لأجلها، ومن ذَلكم الاشتراكُ والمساواة بين كافّة الحجاج في متطلَّبات هذا النّسك، فليس للغِنَى ولا للنَّسَب ولا للرّياسَة فضلٌ أو استثناء، فالوقوف بعرفَة واحدٌ، والمبيت بالمزدلفةِ واحد، والجمرةُ ترمَى بسبع حصَيَات لكلِّ واحد، والطواف واحِد، والسعيُ واحد، فليسَ للغنيِّ أو الشريف أو الوزير أن ينقص جمرةً أو يسقِط وقوفا أو مبيتًا، الناس سواسيَة، لا فرق بين عربيّ ولا عجميّ ولا أبيض ولا أسودَ في هذا النسك إلا بالتّقوى.

فما أحرى حجّاج بيت الله الحرام وما أحرى المسلمين بعامّةٍ أن يأخذوا هذه العبرة من هذا المشهد العظيم، فإنَّ مثلَ ذلكم الاستشعار مِن أعظمِ الدّواعي إلى التَّآلف والتّكاتُف والرّحمة والشفقة والتواضُع والتعاون، لا شعارَات وطنيّة، ولا هتافات عصبية، ولا رايّات عبِّيَّة، إنما هي راية واحدة، هي راية: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

إنَّ الأمة بحاجةٍ ماسّة إلى استجلاب كلّ معاني الوحدةِ والتعاون والتّناصر على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، فلا يعتدِي أحدٌ على أحد، ولا يبغِي أحد على أحدٍ، بل يعيش المسلمون في سلامٍ حقيقيّ وتعاون قلبيّ، لا يمكن أن يكونَ له ظلّ في الواقع إلا من خلالِ الالتزام بشريعةِ الإسلام الخالدة التي أعزّ الله الأمّة بها.

فما أحوجَ الأمّة الإسلاميّة ـ وهي تكتوي بلهيبِ الصراعات الدموية والخلافات المنهجية ـ إلى الاقتباس من أسرارِ الحج؛ لتتخلَّصَ نفوس أبنائها من الأنانيّة والغلّ والحسَد، وترتَقي بهم إلى أفقِ الإسلام الواسع المبنيِّ على منهاجِ النبوّة، والدّافع لكل نِزاعٍ أو شقاق أو اختلاف، كيف لا والله جلّ وعلا يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، ويقول سبحانه: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]؟! إذًا لا مجالَ للتّفاخُر ولا للاختِلاف ولا للتّخَاذُل، وليس اختلافُ الألسِنَةِ والألوانِ والطّباع والبُلدان محلاًّ للشِّقاق والفرقةِ؛ لأنَّ الميزانَ عند الله واحد: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208، 209].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعده.

وبَعد: فاتّقوا الله عبادَ الله.

واعلموا ـ حجّاجَ بيت الله ـ أنّه يُشرَع للحاجّ في اليوم الثامن من ذي الحجّة أن يحرِمَ بالحجّ إن كان متمتِّعًا، وإن كان مفردًا أو قارنا فهو لا يَزال في إحرامِه. ويُستحبّ للحاجّ في اليوم الثامن أيضا أن يتوجَّه إلى منى قبلَ الزوال، فيصلِّي بها الظهر والعصرَ والمغرب والعشاءَ والفجر قصرًا من دون جمعٍ، ما عدا الفجر والمغرب.

فإذا صلّى فجرَ يوم التاسِع وطلعتِ الشمس توجَّه إلى عرفَة وهو يلبِّي أو يكبِّر، فإذا زالتِ الشمس صلَّى بها الظهرَ والعصر جمعًا وقصرا بأذانٍ وإقامَتين، ثم يقِف بها، وعَرفة كلُّها موقِفٌ إلا بطنَ عُرَنَة، فيكثِر فيها من التهليلِ والتسبيح والدعاء والاستغفار، ويتأكَّد الإكثار من التهليل لأنَّه كلمةُ التوحيد الخالِصَة، فقد قال: ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ، وهوَ على كل شيء قدير)).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير