تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وانظري إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أن جاءه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذلك العملاق الذي تخلل النور حياته، من أم رأسه حتى أخمص قدميه، جاء يومًا إلى المُربي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومعه كتاب أصابه لبعض أهل الكتاب، فقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابًا حسنًا من بعض أهل الكتاب، فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني)).

نهج مقصود

(فقد كان هناك قصد من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل في فترة التكوين الأولى على كتاب الله وحده؛ لتخلص نفوسهم له وحده، ويتقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يستقي من منبع آخر).

ولكن لماذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لماذل حرص كل هذا الحرص على ألا يتلقى أصحابه رضي الله عنهم إلا من نبع الكتاب والسنة وفقط؟

فربما ظن ظان أن ذلك كان أمرًا عابرًا مؤقتًا؛ إذ لم يكن في الأرض يومها حضارات وثقافات يصلح أن يستمد منها المسلمون منهاجًا لحياتهم، ومصدرًا لصياغة تصوراتهم وأفكارهم وقيمهم وأخلاقهم.

وهذا لا شك أنه خطأ فادح؛ (فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها، وميراثها، وقانونها، الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده، وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم، وكانت هناك حضارة الفرس وفنها، وشعرها وأساطيرها، وعقائدها ونظم حكمها كذلك ...

وحضارات أخرى قاصية ودانية؛ حضارة الهند وحضارة الصين ... إلخ، وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تَحُفَّان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة.

فلم يكن إذًا عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يُقصِر ذلك الجيل على كتاب الله وحده في فترة تكونه، وإنما كان ذلك عن تصميم مرسوم، ونهج مقصود) ([1]).

كان رسول الله r يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص التكوين من أي مؤثر غير المنهج الرباني الذي يتضمنه القرآن؛ ذلك أن المنهج الرباني هو المنهج الوحيد الذي ارتضاه له ربه وخالقه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3].

وهو المنهج السماوي الوحيد الذي بقي كما أنزله الله جل وعلا محفوظًا عن التحريف والتبديل: ((إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].

وهو كذلك المنهج الرباني الذي شرعه الخالق U، وجعله متلائمًا مع فطرة هذا الإنسان، فهو سبحانه الأعلم بخلقه: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14].

وكم ظلمت البشرية نفسها، عندما وقع أكثرها اليوم في براثن ظلام المناهج الأرضية أو المحرَّفة، فسقطت في هوة الشِّقوة، التي توعَّد الله تعالى بها كل من أعرض عن نوره ومنهجه: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)) [طه:124 - 127].

أما أنت أخيتي إلى ربه، فهنيئًا لك تلك الحياة الآمنة المطمئنة، كما وعدك ربك فقال جل وعلا:

((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل:97].

فرسان في موكب النور

يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

(وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم ـ يعني أهل السنة ـ اعتصامهم بالكتاب والسنة؛ فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أنه لا يُقبَل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وَجْدِه، فإنهم ثَبَتَ عندهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم).

وإليك ـ أيتها الحبيبة ـ عبيرًا من أقوالهم وأفعالهم، حتى تسيري على نفس الخطا التي عليها ساروا:

1ـ فعن أبي قتادة قال: كنا عند عِمران بن الحصين في رهط منَّا، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عِمران يومئذ فقال: قال رسول الله r: (( الحياء كله خير)).

فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارًا لله ومنه ضعف، قال: فغضب عِمران حتى احمرت عيناه، وقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله r وتعارض فيه، قال: فأعاد عِمران الحديث، قال: فأعاد بَشير؛ فغضب عِمران، قال: فما زلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نُجيْد، إنه لا بأس به، يعني إنه ليس متهمًا بالنفاق.

2ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: تمتَّع النبي r، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: ما يقول عُرَيَّة؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة؛ فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول قال النبي r، ويقول: نهى أبو بكر وعمر.

3ـ وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (إن استطعت ألا تَحُكَّ رأسك إلا بأثر فافعل) ([2]).


([1]) معالم في الطريق، سيد قطب، ص (10 - 11).

([2]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، (1/ 142).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير