[تقبيح الحسن وتحسين القبيح!]
ـ[أحمد بن موسى]ــــــــ[23 Feb 2008, 10:58 ص]ـ
ليست هذه المقالة استهجاناً لعقل أحد في تحسينه لأمر قبيح، أو سخرية من كاتب من أجل تقبيحه لأمر حسن ..
كلا؛ بل كل ما في الأمر هو أني أردت أن أشركك -أخي القارئ- معي في متعة من متع الأدب، وأفنونة من أفانينه.
فهذا العنوان الذي اخترته لك ما هو إلا اسم لكتاب صغير الحجم، كبير المعنى، لطيف العنوان، جاد المضمون، حسن التأليف، بديع السبك والترصيف، في مدح أشياء تعارف الناس على ذمها، وذم أشياء تعارف الناس على مدحها [1] ..
ومؤلف هذا الكتاب هو جاحظ نيسابور، وزبدة الأحقاب والدهور، وخاتمة مترسلي العصر العباسي الثالث، الأديبُ الشاعر، أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري، المتوفى عام 429 هـ، نقل ابن خلكان في (وفيات الأعيان): أنه كان راعي تَلَعَات العلم، وجامعَ أشتات النثر والنظم.
ويكفيك -أخي القارئ- لتعرف قدر هذا الرجل ومنزلته في اللغة والأدب أن تعلم أنه هو صاحب كتاب (فقه اللغة)، وكتاب (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وهذان الكتابان مصدران أصيلان في بابهما، وعمدة لمن جاء بعده في دراسة الأدب والشعر في القرن الرابع الهجري، خاصة أنه نقل فيهما من مصادر لم تعد موجودة اليوم.
وهذا الكتاب -أعني: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن) - هو ثالث ثلاثة كتب أنشأها الثعالبي في اختلاف الناس في مدح الأشياء وذمها، والكتابان الآخران هما: (الظرائف واللطائف) و (اليواقيت في بعض المواقيت)، إلا أن نصوص الكتابين الأخيرين تتعلق بمدح الشيء وذمه في مكان واحد.
وهو -رحمه الله- في هذا الكتاب -بل وفي كل مؤلفاته- يسلك سبيله المعهود، من حيث الجِدَّةُ، والطرافة، وإشباع المعاني، وكثرة الشواهد، واختيار النوادر، حتى قال ابن خِلِّكان يصف مؤلفاته: "تواليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راو لها وسامع".
وهذا الكتاب أهداه الثعالبي -كعادة كثير من الأدباء في ذلك العصر- إلى أحد فضلاء خراسان، وهو الشيخ السيد أبو الحسن محمد بن عيسى الكرجي، وهو الذي أهدى إليه -أيضاً- (تتمة اليتيمة).
ويرى الثعالبي أنه ما سُبِقَ إلى تأليف مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات، ولعله يقصد بالسبق -هنا- جمع هذه المعاني بين دَفَّتي كتاب؛ وإلا فالمعاني التي ذكرها دائرةٌ قبله على ألسنة كثير من الحكماء والعلماء.
ثم يصف الثعالبي كتابه بقوله: "أودعته لمعاً من غرر البلغاء، ونكت الشعراء، في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة".
وإياك أن يهجم على عقلك -أخي القارئ- أن المؤلف يقصد بالبلاغة -هنا- ما هو متداول عند بعض من امتلكوا أَزِمَّةَ الكلام، وأوتوا بسطة في اللسان؛ من القدرة على قلب الحق إلى باطل، ومدح الشيء ونقيضه، والاستطالة بالذكاء، واللعب بنواصي الكلام؛ للتاثير في النفوس! كلا .. ! إنما هو يريد بالبلاغة البيانَ الصادق الذي أعجز به القرآنُ الكريمُ العربَ قاطبة، وأوتيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مطابَقة الكلام لواقع الحال. وهذا هو الذي يظهر من سياقات الكتاب لمن تأمل ذلك، فهو لا يُقبِّح أو يحسِّن الأمور لذاتها، وإنما يقبح ويحسن أفعال الناس لها؛ ففي كل أمر يفعله الناس؛ يعتورهم مَزلَقان: إما إفراط، وإما تفريط، وهذان المزلقان هما ما يذمه الثعالبي، رحمه الله.
فيذكر -مثلاً- في "باب المقابح": تقبيح العلم، والشجاعة، والأدب، والغنى، والحلم، والصبر .. في قائمة تصل إلى ثلاثين خصلة مما يمدحها الناس، ثم إذا أتينا على حقيقة ما قَبَّح؛ وجدناه لا يقبح سوى العلم الذي لا يثمر عملاً، والشجاعة المتهورة التي لا تجني إلا ندماً، والأدب الذي يشغل قلب صاحبه وعقله عن تدبير شؤونه، والغِنى الذي يورث البَطَر، والحِلم الذي يجرِّئ السفهاء ويصل إلى حد الخُمول ..
¥