المسألة الثالثة: قرأ عاصم {يضاهؤن} بالهمزة وبكسر الهاء، والباقون بغير همزة وضم الهاء، يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت. وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة.
ثم قال تعالى: {قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً، قاتلهم الله ما أعجب فعلهم! {أنى يؤفكون} الإفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير، أي قلب وصرف، ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير. فقوله تعالى: {أنى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، حتى يجعلوا لله ولداً! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق، والله تعالى لا يتعجب من شيء، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَا أمِروا إلا لِيَعْبُدوا إلها وَاحِداً} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو عبيدة: الأحبار: الفقهاء، واختلفوا في واحده، فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر؟ وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير، وينكر الكسر، وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني، ويحسن البيان عنها. والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون، والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع.
المسألة الثانية: الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ سورة براءة، فوصل إلى هذه الآية، قال: فقلت: لسنا نعبدهم فقال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم» وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.
فإن قيل: إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره، كما هو قول الخوارج.
والجواب: أن الفاسق، وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه، ويستخف به أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم، فظهر الفرق.
والقول الثاني: في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين، فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه، فربما ادعى الإلهية، فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة؟ وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر، فكفروا بالله، فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد. وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة.
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
ثم قال تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} ومعناه ظاهر، وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك.
ثم قال: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال