بناءاً على هذا، فقياس (عالم الشهادة) على (عالم الغيب) في ذلك قياس فاسد، لأنه قياس تشكل جزئي وهمي كاذب، على تشكل كلي حقيقي صادق. ولأن العلة الجامعة قاصرة على محلها في عالم الغيب، وتوفرها في طرفي القياس ركن في صحته، وفقدانها هنا ظاهر، فضلاً عن شرط تساويهما في الفرع والأصل، لو وجدت، فهي مفقودة أصلاً في النوع المقيس.
ولو اشتركا في العلة فشرطها أن تكون بوصف ظاهر، وليست في عالم الغيب كذلك.
فنخلص من هذا أنه قياس فاسد لاختلال ركنه وشرطه، والله أعلم.
5 - أما ما درج عليه بعض الأدباء في تأليف غريب اللغة بمقامات على لسان شخصيات وهمية متخيلة مثل (مقامات الحريري) وغيرها، فهذا أيضاً من القياس الباطل، الفاقد لشروطه، المختل ركنه. إذ أنه مقدوح فيه، وذلك بالفرقان بين المقيس والمقيس عليه. حيث أن الحريري في سياقته لمقاماته، لم يتقمص شخصية معيّنه ولا وهمية، بخلاف التمثيل.
ثم هذا من باب القول لا من باب الفعل، ثم هو من باب المحاورة والتعليم لا من باب التمثيل والتشبيه، كالشأن فيما هو أبعد من ذلك، كحديث تعليم جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان والإحسان. وهكذا.
ثم أرونا أثراً واحداً مرفوضاً شرعاً يترتب على هذا.
وأما كليلة ودمنة، فهو ليس من تأليف ابن المقفع المتوفي سنة 145هـ، وإنما هو من ترجمته، وحسبك أنه ابن المقفع الذي ليس له رواية في الإسلام مع تقادم عهده في صدر عصر الرواية.
وعلى كل حال فهذه الكتب:
مقامات الحريري، وألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، جميعها من باب ضرب الأمثال، لا من باب التمثيل. وقد ألمح إلى ذلك ابن حجر الهيثمي في " فتاويه " ونقله عنه الكتاني في " التراتيب الإدارية " (2/ 226 - 227).
6 - وأما ما تقدم في تاريخ التمثيل من وجود لعب وحكايات في هذا كانت معروفة باسم (خيال الظل)، فهذه وإن وُجدت في عصور متأخرة، فهي منقطعة الإتصال بصدر هذه الأمة. ثم وجودها في طبقة الصعاليك والمترفين، وهؤلاء ليسوا بحجة على الدين.
ثم وجد من أنكرها من العلماء، فاستجاب له الأمراء. والله أعلم.
الخاتمة
والخلاصة أن التمثيل: حرفة ً، وأداءً، وتكسباً، وعرضاً، ومشاهدة، لا يجوز.
لأنه إن كان تمثيلاً دينياً فهو بدعي: لوقف العبادات على النص ومورده، ولما علمت من أصله لدى النصارى واليونان.
وإن كان غير ذلك، فهو لهو مُحَرّم، لما فيه من التشبه، ولما رأيته من تفاريق الأدلة، وما يحتوي عليه، ويترتب عنه من الآثار المعارضة لآداب الشريعة، وناموس الترقي، وانحلال ربقة الآداب. وأن ما فيه من عظات، وفضائل مزعومة، فهي ضائعة مغمورة في حَلبة تلك الملهيات التي توقض نائم الأهواء، وتحرك ساكن الشهوات. كما ينطق به الواقع المرير، لتمرير الفحش والخناء، والفسوق والعصيان، وتهديم البيوت داخل أسوارها.
فهو يُمثل مخاطر على العقائد، والأخلاق، والفضائل، والآداب.
وبالجملة فإن انتشار التمثيل بصفته التي ُتشاهد وُتسمع كل يوم وليل، يُمثل إعتلال في الأمة، ونهم في اللهو واللعب، ووهن في الدين، وفراغ من العلم، وعجز عن تحصيله، وتحطيم للأمة في قوتها ووقتها وتنمية طاقاتها ومواهبها، فماهي إلا وسيلة عدوان على الأمة، وتخطيط رهيب لتعيش سادرة، تخوض فيما لا ينفعها في دينها ولا في دنياها، بل هو ضرر محض عليها في الدين والدنيا.
وإفساد الإنسان، وانهيار أخلاقه، بغرض السيطرة عليه: مخطط تخريبي، يهودي.
وفي (بروتكولات يهود):
(يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن (فرويد) منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيئ مقدّس، ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ ٍ تنهار أخلاقه) انتهى.
والتاريخ يحفظ في سطوره أن الهيام في المضحكات والترفيهات من علائم الإنحطاط وانقراض الدول.
فهذا المستعصم آخر خلافاء بني العباس في بغداد، كان مولعاً بالتفرج على " المساخرة " المضحكة، وكان يقضي أكثر زمانه معها، كما في (الفخري ص / 144) وتاريخ أبي الفداء 3/ 176)، وغيرهما.
وهكذا، إذا ماتت السنن ظهرت البدع، وإذا ضعف الجد والعزم، تفشى في الأمة الهزل والضعف، لتصل إلى محطة الشيخوخة في دائرة قطيع يُسام، وسلع تساوم، وإن الحياة لحادث جَلل، فما بمثل هذا تعمر الحياة، ويكون (التمثيل) ناموساً ورمزاً لمجدها.
وبالجملة، فالتمثيل يحوي مفاتيح هذه المقاصد الهابطة، ويتضمن " محاضن تفريخ لها ".
وهنا أذكّر من ابتلي بشيئ من أمر الفتيا، أن يبصر حال أمته، ويبصر أوضاعها، وماذا يُراد بها، ليتوقى عند إصدار الفتوى من فتيا تكون سلماً لتلك المآرب المهينة.
ولا أرى الفتيا بالجواز المقيد بشروطه، إلا ومُصْدِرها - مع التقدير - في غياب عن الساحة وما يجري فيها من توظيف " التمثيل " لهدم مقومات الأمة. فستكون الفتيا " تكأة " ينطلق منها الآثمون، مستبعدين لضوابطها الشرعية عند من أفتى بها - وقد فعلوا!
وأقول أخيراً:
إن التمثيل لو كان جائزاً بشروطه، لوجب في هذا الزمان الإفتاء بمنعه وتحريمه، لما يُشاهد في بلاد المسلمين من زحم التمثيليات المهول التي تفرز خطورة على مقومات المسلمين كافة، ولا ينازع في الواقع إلا جاهل به، أو ممالي.
أيقظ الله المسلمين من غفلتهم، وهداهم، وأصلح بالهم، والله الموفق
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بكر أبو زيد
الفهرس:
1 - الموضوع.
2 - المقدمة.
3 - المبحث الأول: ما كُتب في التمثيل.
4 - المبحث الثاني: أسماء التمثيل.
5 - المبحث الثالث: تاريخه.
6 - تنبيه مهم: في حكم إهداء الزهور للمرضى.
7 - تحقيق نسبه البيتين المشهورين في خيال الظل.
8 - المبحث الرابع: أنواع التمثيل.
9 - المبحث الخامس: الغاية منه.
10 - المبحث السادس: المدرك الفقهي لبيان حكمه.
11 - شبه المجيز والجواب عنها
12 - الخاتمة.
¥