تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لهم، ولها، بلا دعم مؤسساتي، لم يكن لهم أن ينشروا فكرتهم، بل لم يكن ممكناً لفكرتهم أن تصمد، كانوا يواجهون خطرين: إما الإزاحة المادية والإقصاء المعنوي الذي سيقوم به المجتمع تجاههم، أو تذويبهم واحتواءهم بالتدريج، كانت "فكرتهم" – وهي لا تزال جنينية غير مؤهلة بعد للتفاعل، غير مؤهلة للصمود، وكان التفاعل المبكر قد يؤدي إلى إجهاضها وقتلها – أو قتلهم هم .. لذلك كان لابد من خيار ثالث غير هذين، خيار يحافظ على "الفكرة""الجنين" ويحميها من التفاعل المبكر ويمنحها الوقت اللازم للنمو، إلى أن يأتي وقت التفاعل الأنسب الذي سيزيد الفكرة مناعة ورسوخاً .. هذا الخيار الثالث هو "الاعتزال" {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف: 18/ 16] – فلننتبه أنه لم يكن "العزلة"، بل كان "الاعتزال"، والفرق بين الاثنين أن العزلة تكون حالة يفرضها المجتمع – حالة من النبذ واللاتواصل تفرضها المؤسسات الاجتماعية من أجل خنق الفكرة المنبوذة وحامليها – أما الاعتزال فهو عملية واعية يقوم بها من يتصور أن "الاختلاط" في مرحلته الآنية، سيعرض الفكرة لمواجهة مبكرة قد تكون قاتلة، لذا فالاعتزال يمثل فرصة نجاة محتملة لهذه الفكرة، وهو هنا، بالتأكيد، أعمق وأكبر بكثير من فرصة للتعبد والترهبن، فالاعتزال هنا ليس انسحاباً زاهداً بالمجتمع، بل هو "تكتيك" لمواجهة المجتمع، يتطلب انسحاباً مرحلياً .. دون أن ينسى إستراتيجيته الأساسية الرامية لإعادة بناء المجتمع ..

هذا هو الكهف، تكتيك ضمن إستراتيجية أوسع، طور أولي من أطوار الاستحالة، تكون فيه الفكرة جنيناً يحتاج إلى "الحاضنة" التي تزيده قوة ومناعة، الفكرة هنا ستكون خارج التفاعل التاريخي، بل حتى خارج الزمان والمكان، فالكهف هو تلك "الفجوة" من الزمان والمكان التي تهيئ "الكمون" للفكرة، و "الكمون" هنا استمر لثلاثة قرون وأكثر – وكان في جوهره المحافظة على "البذرة" – بتهيئة الظروف التي تحافظ على حيويتها ونشاطها وصفاتها – بدلا من تضييعها بزراعتها في أرض غير خصبة، وظروف مناخية غير مناسبة قد تجهض البذرة والفكرة في آن ..

كان الاستثمار -و لو اللاحق- تلك البذرة هو هم أولئك الشباب (الذين ظلوا شباباً لثلاثة قرون)، لذلك فهم يتواصون فيما بينهم {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 18/ 20] فالفلاح هنا هو الفلاح بالمعنى الأعمق والأوسع، وهو لا يقتصر على الفلاح الأخروي أبداً، إذ إن النجاة الأخروية لن تتعارض مع "الرجم"، بل إن "الرجم" سيكون أقرب الطرق إلى الفلاح الأخروي بالمعنى التقليدي السائد"حاليا! "، لكن لا، ليس ذاك هو الذي في أذهانهم، إنهم يريدون "الفلاح" الشامل، رديف النهضة، حيث الموقع الأخروي يتحقق عبر الموقع الدنيوي، إنهم يريدون الفلاح – أي فلاحة الأرض – عبر استخدام تلك البذرة التي اعتزلوا من أجل المحافظة عليها ..

طور الكمون طور حساس ومهم جداً .. ذلك أن أي إنهاء مبكر له، سيعرض فكرة النهضة برمتها للإجهاض، وسيجعلها في سياق تفاعل غير متساوي، قد يحرف الفكرة عن مسارها .. وطور الكمون قد يستمر لفترة طويلة، لقرون، كما حدث مع أولئك الفتية، لكن في لحظة ما، ستحين "الفرصة التاريخية" التي تتيح للفكرة – البذرة أن تخرج من حاضنتها إلى حيث التربة والتفاعل مع الواقع .. قد تتمخض الفرصة التاريخية عند انهيار المؤسسات التقليدية بطريقة تجعل هذه الفكرة أكثر قرباً، تصبح خياراً معقولاً أكثر، وقد تتمخض عن تصادم المؤسسات يبعضها إلى حد الإنهاك، وقد تصبح، بشكل استثنائي، عندما تتبنى مؤسسة ما، لسبب أو لآخر، هذه الفكرة ..

الخروج من الكمون، من الحاضنة التاريخية، إلى زمان الفعل ومكانه، خطوة مهمة وأساسية، لكنها نهاية الطور الأول فقط .. والتحديات الأساسية لم تنته بعده ..

والأمر يشبه مخاض الولادة – الطفل ولد الآن، لكنه سيظل بحاجة إلى العناية والرعاية والاهتمام .. سيحتاج إلى اللقاحات والتحصينات، والتغذية المتوازنة ..

لكنه، من هذه اللحظة فصاعدا:لم يعد جنيناً ..

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير