التصرّفِ في الكلامِ والتفنّنِ في طرقِ البيانِ، والتباهي بأساليبِ البلاغةِ المُطربةِ، وفي تفريع الجمل بعضها من بعض كأنما يكتسح قارئه اكتساحًا بما يتخلله من السجع، والتلوينات العقلية واللفظية، والمطابقة بين المعنى والمبنى، والوضوح والصفاء والدقة، والبعد عن التكلف والتزويق المصطنع، والقدرة الباهرة في استعمال الازدواج والمقابلة والتقسيم، وإحكام بناء الجمل وتوازنها، واستطاع أبو حيان بقدرته الفذة أن ينفصل عن موجة السجع التي سادت الكتابات الأدبية في أيامه، وأدبه ليس لفظيًا قعقعة ولا طحن، بل هو أدب يحمل زاداً كبيرًا من المعاني.
وقد يخيل للقارئ بادي الرأي حين يقول أبو حيان: أخبرنا وحدثنا أو قال شيخنا أنه يسوقُ كلامَ غيره، ولكن إذا حققت النظر، وأعملت الفكر، فإنك لا ترى لغير أبي حيان قولاً ولا غير أسلوبه أسلوباً ولا غير روحه روحاً، وقد يكون المعنى لغيره أو القصة معروفة، لكن الديباجة ديباجته لما ترى فيها من بارع التعبير، ورصين التأليف، والبلاغة الممتعة، في السلاسة الممتنعة، فقد كان لا يكتفي بإيراد الحادث على ما عرفه وتناقلته الرواة، بل يعرض له ويرسل عليه وابلاً من فيض بلاغته، وزاخر بيانه، فإذا القصة ذات وقائع وأشخاص وأبطال، تروع إذا مُثِّلَت، وتروق إذا قُرِئت، وتملك المشاعر والقلوب إذا سُمِعت.
إلا أن الذي أغمض أسلوبَه في هذا الكتاب تعرضُه كثيراً لمسائل فلسفية عميقة، قد عزت على البيان، ودقت عن الإيضاح، حتى ضُرِب بين الكتاب وبين جمهرة الشباب المتأدبين بسور له باب، ظاهره صحراء قاحلة مليئة بأشواك المماحكات الفلسفية، وباطنه بستان في زمان الخريف، لكل عينٍ فيه منظر، ولكل يدٍ منه مقتطف، ولكل فمٍ منه مذاق، وحتى أن من يحاول قراءة الكتاب من أوله إلى منتهاه –على صغر حجمه- يصده عن ذلك ما يجده من الغموض والاستطراد اللذان أشبه ما يكونان بالدوامات التي تدور برأس القارئ، وتستنفد جهده، وتكد ذهنه، وتجلب السآمة له، ثم تقعد به عن متابعة قراءة الكتاب في نشاط، ومداومة فتية، فلا يقرأ إلا أجزاء متناثرة كالرياض في صميم الفلاة.
فإذا ما خرج أبو حيان عن هذه الموضوعات الدقيقة إلى موضوعات أدبية: كوصف الفقر والبؤس أو وصف الكرم وفوائده أو وصف اللسان والبيان؛ جرى قلمه وسال سيله وأجاد وأبدع، ووجدت له رنة، ووجدت له روعة، ووجدت له طعماً هو غير تلك الطعوم التي نتذوقها في كتابات غيره من البلغاء.
ثم إنه ليس الغموض والاستطراد وحدهما ما يعيب الكتاب، بل فيه أيضًا من النوادر ما ينبو عن الذوق ويحمل رديء المعنى، وذلك يستثير الحفيظة ويخدش الحياء، ويجعلك في حذر من انتشار هذا الكتاب في بيوت الناس، وبين جمهرة الشباب الأدباء والشداة، الذين يريدون أن يقوّموا أسلوبهم الكتابي، ويكونوا من أصحاب البلاغة والإنشاء، الذين لا بد لهم من القراءة المتدراكة المستمرة في مثل هذه الكتب؛ التي من قرأها ووعاها ولحظها بعينِ التأمّلِ، وأعطاها حقّها من العنايةِ، وسلكَ على دربِها في الأسلوبِ والمحاكاةِ، فقد رُزقَ حظّاً وافراً من صنعةِ الأدباءِ، وخطا خطوات واثقة نحو الإبانة العربية الأصيلة [4].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البويهيون أسرة فارسية تنسب إلى رجل اسمه بُوَيْه، وابناؤه أحمد وعلي والحسن، استولوا على العراق وفارس وبلاد الجبل عام 334 هـ، فكانت بغداد لأحمد ولقبه معز الدولة (356 هـ) ثم لابنه بختيار عز الدولة (367هـ)، وكانت فارس وحاضرتها شيراز لعلي ولقبه عماد الدولة (338هـ) ثم بعده لابن أخيه عضد الدولة ابن ركن الدولة؛ لأن عماد الدولة لم يكن له عقب، وكانت أقاليم بلاد الجبل وحاضرتها الري للحسن ولقبه ركن الدولة (365هـ) ثم لأبنائه عضد الدولة ومؤيد الدولة وفخر الدولة وكانت لعضد الدولة الرياسة على أخويه، ثم لم تلبث الأمور أن ساءت بين عز الدولة ابن معز الدولة صاحب بغداد وعضد الدولة صاحب بلاد الجبل، فاشتبكا في حروب قُتل فيها عز الدولة ودخلت بغداد تحت حوزة عضد الدولة، وبهذا تكون جميع الأقاليم قد آلت إلى عضد الدولة أعظم ملوك بني بويه وأول من لقب بملك الملوك في الإسلام، ولما توفي عضد الدولة عام 372هـ، قسم مملكته على أبنائه الثلاثة، شرف الدولة وصمصام الدولة وبهاء الدولة، وتولى شئنون بغداد والعراق صمصام الدولة وهو الذي صار ابن سعدان له وزيرًا الذي سامره أبو حيان، ولم يمر عامان حتى قتله صمصام الدولة.
[2] هو محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل، ولد ببوزجان من بلاد نيسابور عام 328هـ، وقدم العراق سنة 348هـ، يعد أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله استخراجات غريبة لم يسبق إليها توفي عام 387هـ.
[3] أبو عبد الله الحسين بن أحمد، كان وزيرًا لصمصام الدولة بن عضد الدولة، من 372هـ إلى مقتله عام 376هـ على يد صمصام الدولة، كان واسع الاطلاع، وله مشاركة جيدة في كثير من فروع العلم من أدب وفلسفة وطبيعة أخلاق ويدل على ذلك أسئلته العميقة لأبي حيان ونقده الدقيق للإجابات.
[4] هذا المقال هو في الأصل جزء من مقدمة كتاب تهذيب الإمتاع والمؤانسة الذي أنا بصدده يسر الله –بمنه وكرمه– إتمامه.