تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و واهم من لا يرى أننا على موعد بموضوع الإنسان حين يكون حديثنا في الفطرة! ووهمه في غير محله إن جاء هنا على أساس أننا نفرق بينهما بجعل الكلي دون الجزئي وببسطهما معا تحت معنى واحد ... أقول: إن الأمر في الحقيقة على خلاف وهمه, إذ أننا نرى أن الفطرة هي نوة جميع البشر على اختلافهم معتقداتهم و أهدافهم, أما جميع ما تفرع منها فهو لا يخرج عنها بشكل قطعي, سواء كان صورة مركبة أو قيمة روحية, كما أننا نرى كذلك أن الفطرة بادي ذي بدء أمر ثابت متطور فعاهن كما هو شأن الإنسان , وهي تلك النوة التي لن يستطيع أحد أن يغير كنهها, مهما فعل أو حاول أن يفعل, إذ أنها في آخر المطاف تعود إلى أصلها الرسيس, وهذا بغض النظر عن الانحراف الذي قد يشوبها أحيانا وبالرغم أيضا من الضباب الذي يشين صفوها الأصيل أحيانا أخرى.

إن شبح الفارق بين العلماء والجهلاء شبح لا وزن له, وهو في الوجود ليكاد على وجه العموم أن يماثل الغول في وجوده! وجود بلا وجود, لا متصل بالحياة هو ولا منفصل عنها تماما. إننا لو تمعنا أمر الجاهل والعالم ـ بأنظار العقل السليم لا بأبصار من حديد ـ لانقشع لنا شأنهما على حقيقته الجوهرية, لا على ما يبدو لنا في أول وهلة أنه حقيقة حتمية, فالعالم والجاهل من حيث الواقع الحسي وفقه البدائه والمعلومات يستويان, وهما أمام المنظر البهيج والورد الشذي المرتَّج والظل الواسع الفج شريجان بل و مماثلان, كما أنهما لا يختلفان في وصف الوجه الجبل بالوجه الجبل, وأنف العجل بأنف العجل ,وهذا يعني أنهما لا يختلفان فيما يتصل بالقدرة على الإحساس في المواقف المعينة واللامعينة, وناهيك عن تقارب أحاسيس كل منهما أمام المجودات من نبات وحيوان وجماد, وعلى هذا أضف كذلك قدراتهما الفعالة لتمحيص النفس بالجهد وإمكانياتهما لبلوغ أسمى المقامات. هذا بالنسبة للمعلومات بصفة إجمالية, أما فيما يخص ما أسميه أنا بفن المصطلحات ـ الذي نجده في مختلف العلوم والفنون ـ فكلمتي فيه أنه كنز ليس للجهلاء فيه من نصيب, ولا أن يطمعوا فيه بمطمعة أدنى الحشرات, ومجرد التقاءهم مع العلماء في غير جزئية واحدة من جزئيات الالتقاء أمر لا يفيد طماعيتهم فيه بقدر ما لا يفيد الشراب الطُسأة, ولك إن شئت أن تقول أنهم لا يملكون من هذا الفن قدر ما يهبهم من الشرف ما وُهِبَهُ العارفون منه, والجهلاء من هذه النبذة أو الناحية دون العلماء بالإجماع, ودليل ذلك أن الأخصائيين هم الذين يرمِّمُون مختلف جوانب هذا المجال الرحب, وهم كذلك الذين يرعونه حق رعايته ويتولون حفظ تطوراته.

اعتبر بارك الله فيك فن المصطلحات بعين المعتبر! وعي أنه مجال مهم وأنَّ آفاقه أفاق رسيسة عاهنة ... إنه يتيح العارف فرصة الإبداع مرة, ومرة أخرى فرصة الإنتاج في حقله الخاص بثقة وفعالية. وبأنه ينبغي رزْنَ أهميته بموازين القدر العالي, فلا تستغربن أن ترى من المتخصصين أديبا أو شاعرا متألقا وهو يعرض ـ من منصته على القارئ ـ لغته السلسة وبلاغته الساحرة, يحليها له بالنقوش المجازية, ويلحنها على هيئة قصيدة ذات إيقاع شجي وعزف سجي بديع, يعبر بواسطتها عما خالج صدر الجاهل وناب عقله, وناهيك عن وصفه بها نفس المنظر الذي يراه والجاهل بأوصاف نعم هي! أوصاف, أنى للجاهل أن يأتي بمثلها؟ ... إنها رموز لغة ناذرة, وصاحبها بلاغي حصيف وصاحب روح مدمنة على دقة البيان.

إن حقيقة الخلاف بين العلماء والجهلاء حقيقة كامنة في ثنايا ما اعتاده المعتادون وصاروا يعجون باسمه كلما اجتمعوا و عزموا على مقارنة المتعاكسات, فهم ـ وهذا ديدانهم الموروث ـ لا يقيمون وزنا أيا كان هذا الوزن لجزئيات الالتقاء العامة, بينما نجدهم دوما يهشون بألسنهم على كل جزئية تفصل بين المقارَنَيْنِ, كأنما ليس هناك من جزئيات صحيحة سواها. هذا وقد يلاحظ على هؤلاء الظلمة أيضا أنهم إن قارنوا لا يقارنون إلا بين المتعاكسات المضادة من جهل وعلم, أو من أبيض وأسود أو من ظاهر وباطن وهلم جرّا, أما أن تجدهم يقارنون بين المماثلات من حسن وحسن ومن قبيح وقبيح ومن نفيس ونفيس فلا! مع أن عدد نقاط الافتراق بين المماثلات قد يفوق أحيانا عدد نقاط الالتقاء والمشابهة بينها وبين المضادات .... جزئيات كانت هذه النقاط أو كليات.

إنني أرى أن فائدة التحليل الفكري الدقيق ـ إنْ جدواه عين جدوى الإحساس الفطري ـ على غير عهد بالواقع! فهل الغاية ـ يا أصحاب المصطلحات ـ لا تُمْنَحُ صفة الغاية إلا إذا ألغيت جميع وسائل الطلب, ما عدا وسيلة واحدة أو وسيلتين, اجتمعتم ومن يحسنون لحن القول على جعلهما قاعدة معصومة, تصطادون بها رؤوس الأخطاء وأذيال السقطات.

الحياة الجسدية عندي لا يمكن أن تتم إلا بحياة الروح, وهذا بغض النظر عن هيئة الجسد العامة, فلا ضعف الجسد بمن يحرم الجسد من الحياة مادامت روحه ترشف الحياة رشفا, وتتجرع الأمل صبوحا و غبوقا. و يبدو أن حتف الجسد العريض وهلاكه أمر محتوم ظاهرا, وهو القائم أصلا على بناء عضلي فاره, ولا عجب أن يكون الحتف نصيب جسدٍ رُبِّيَّ بأصناف الأطعمة وشتى ألوان الأشربة: متى علم أن روح هذا الجسد لم تحظِي بمثل ما حُظي به هو, فلا حركاته إذاً بالدالة على الحياة بمعناها الواسع الشامل, ولا سرعة تنفيذه للأوامر بالتي تعني معنىً ما من معاني الحياة الحقة ... إنه لا هذا ولا تلك بالحياة الصحيحة التي تستحق أن نسجل أمجادها ... ومن هنا فقط يمكن أن نفصل بين الجهل والعلم, إذ أن الجهل بالفن المعين يعني ابتعاد الإنسان عن مرغوبه معنويا كان أو حسيا, أما العلم به فهو إن فاد فلابد أن يفيد أن حياة الإنسان لا تصل ذروتها إلا بنيل هذا المرغوب, و لكل جاهل بهذا الحقيقة الجوهرية نقص من الحياة الروحية, وجهل بجوهر ينبوع طالما اعتاد الناس أن يترددوا حوله دون أن يُعلم هدفهم من ذلك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير