تغضبها لغير الله رب العالمين.
أخي الفاضل, جاء في مقدمة بحتك المعنون له بعنوان "كيف تحج المرأة وتعتمر وفق المذهب المالكي" ما نصه:
"وقد اعتمدت في عرض الأحكام الفقهية التي أوردتها في هذا البحث على المذهب المالكي الذي ارتضاه المغاربة مند قرون عدة, وخدموه ونشروه ونصروه راعيا ورعية, حتى صار إحدى السمات التي تميزهم عن غيرهم, في ماضيهم وحاضرهم, اعتمدت هذا المذهب لا لأنني متعصب له تعصبا أعمى, أو مناوي للمذاهب الفقهية الأخرى, ولكن لكونه مذهبا جمع كلمة الأمة المغربية قرونا, ووحد صفوفها أزمانا, ولكونه أيضا مذهبا فقهيا يتسم باليسر والاعتدال ويتميز بتعدد الآراء, ويعرف بتنع الإستنبطات ووفرة الأقوال مما ييسر على معتنقيه امر دينهم ويوسع عليهم الدائرة في عبادتهم ومعاملاتهم, ولذلك أتجاوز أحيانا أقواله المشهورة وأرجح غيرها إن رأيت فيها اليسر والتخفيف, ولا أستورد الأقوال خارج المذهب إلا عند من أشم فيها رائحة السماحة والتيسير. وهكذا أوردت جل الأحكام التي ....... إلى آخر الكلام".
أقول وبالله التوفيق إن ملامح هذا النهج المحدث ـ الذي توخّيته في بحثك ووضعت لبناته واحدة واحدة حتى أبصر وجه النهار ـ ملامحٌ مشبوه فيها وما أدراك ما مشبوه, و لذا فإنها تبدو نظيرة لما نهجه عقلانيو الأشاعرة في هذا الزمن, وصرفوا بواسطته جل أصول الفقه المعلومة, حيث أنهم أثروا عقولهم على نصوص الكتاب والسنة تارة, و على الإجماع تارة أخرى, فأولوا الأحاديث الصحيحة وأخرجوها عن دائرة المراد, إلى أن ضربوا في النهاية بالحق ضربا أفسدوا به دينهم, ثم من بعد دين غيرهم من الجهلة الأميين, وكأني بهم في هذا الشأن على صراط ذوي العقول الضّيقة, القاصرة أفاهمهما, حيث أنهم استوردوا دساتير الغرب ووضعوها للناس هيكلا يعبد من دون الله سبحانه جل وعلا, ضنا منهم أنها أرحم وأرفق بالمجتمع والحضارة, فكان أن غاب عنهم ما غاب من علم الله, الذي جعل كتابه شرعا ومنهاجا ورحمة للورى. وسواء علم الأولون طوام الآخرين أو لم يعلموا شنيعَهَا, فالظاهر أن كلاّ منهما لم يدركنّ حقيقة أن فساد الأصل فساد الفرع, كما أن مخالفة النقل لا يرشد العقل و لا يهديه إلى الصواب, إلا بالقدر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وأقول أيضا, هل كان ديننا الحنيف في يوم من أيام الله عسرا عسيرا, حتى نستمد الأحكام اليسيرة والاجتهادات السمحة من بطون المؤلفات؟ التي مال بها أصحابها في بعض المسائل دون بعض, لعدم معرفتهم بالدليل أحيانا أو لعدم صحته و رسوخه واستقراره في أفهماهم أحيانا أخرى, وهل من الدين المنزل من عند العزيز العليم, أو من الإصلاح والاجتهاد المزعومين حَيْكَ مبادئ حديثة و رؤى جديدة, كي نروّج لها عبر الفضائيات والإذاعات ونملئ به الكتب والصحف والمجلات , ونمجّ بها في أسماع البريّة من أعلى المنابر, مدّعين بذلك أنها من روح الإسلام الغابر, زاعمين أنها عين السماحة و ذروة الوسطية التي أمرنا به ديننا وشرعها لنا ربنا.
ولما كانت مفسدة المنطق تجلب ما قد يبدو أنه من المصلحة أكثر منها من المصلحة التي ضُبطت في النصوص الشرعية, لما كانت هذه المفسدة واضحة فإن تعين الوسطية بمعايير العقل وحده لممّا يبخس الوسطية دقة الإيضاح وسلامة المعنى, الواردين في كتاب الله و سنة رسوله, وذلك لأن العقل البشريَّ يختلف من عبد لأخر وبالتالي اجتهاد الفقيه إذا أسس على معايير منطقية بحتة أو وُضع موضعا يقوم عنده العقل فيه محل النصوص , ولذا ولأسباب بديهية أخرى فلابد أن تكون الوسطية معنى شاملا مستوحى من كتاب الله وسنة رسوله, على مراد الله ورسوله, لا مراد العقل والحس الميكافيلي وفقه ابن الرومي ومحمد عبده العقلاني.
لا حبذا أن تتجاهل ما يخالف الجمهور وأقوال السلف والخلف المشهورة, لاستحسان العقل لها بوضع علة أو بحذف أخرى لم يتمطّقها هواه, فهذا مما لا يقول به عاقل وهو من شذوذ المجتهدين, بل إنني لا أعتقد أنه من الاجتهاد في شيء, وهو أمر غير وارد ولن يكون لصداه ما تحمد عقباه.
هذا, واعلم رحمك الله أنني لا أنكر فضل العقل ومِيَزَهِ, ولكنه لو كان لنا أن نستدل بغير كتاب الله و سنة رسوله لكان الوجدان أقدر من الأول, لأن المعروف عن العقل هو تسجيل الظواهر دون رصد جوهرها والاكتفاء بنسخ ما يبدو من ظاهرها دون البحث في كنهها, بينما أن الوجدان قد يستطيع في بعض الحالات خرق حجب المادة, ليدرك كنهها وهذا ليس من مقدور الأول, وإن في الوجدانِ من الآفاق المنفهقة, المتسعة عراص فتاءها ما يعجز العقل عن إدراكه , لأن العقل بطاقته المحدودة قد يستقيم في بحر الوجدان كما لا يستقيم من تلقاء نفسه, وإن كان دور الوجدان في الدلالة هنا غير معمول به.
لا حرج حين تأخذ بقول منفرد لعالم ممن خالفوا الجمهور في مسألة معينة , لاسيما إن كانت هناك من الأدلة ما يسوّغها أو يجعلها محل أخذ ورد و اجتهاد, ولكنك أن تجمع أقوال كل مخالف للجمهور , بغرض تيسير دين الله وتسهيل أمره وتمرير ما ليس منه في شيء, فهذا مذهب بلا امام ـ اللهم إلا أن يكون اماما زنديقا ـ وهو نفس درب الرويبضات الذي يقع الشيطان على رأس هرمها المنتكس, الدرب القائمة أصوله على الهوى والتحريف والجهل أحيانا, وأحيانا أخرى على التأويلات الفاسدة.
ولكون الفقه أصول وقواعد بادئ ذي بدء, فلا مخرج للفقيه ولا وصول, إلا بالعودة إلى الأصول, حتى ينهل من مناهلها و يرشف من ينابيعها, ولا أحد يشك أن الأصول الفقهية ستجمع له من العلم الشيء الكثير في بضع كليمات معدودة, ولذا كان الاهتمام بها ضروريا ودراستها فرضا لازما. هذا من جهة, أما من جهة ثانية فعلى الحصيف أن يهتم بتعليلات الفقهاء التي قلّ أن يخلو كتاب فقه منها, و إن هذه الأخيرة لبمنزلة الأصول, إن لم تكن بشكل عام فوائد خاصة, مبنية على أصل ثابت مشهور, مما جرى تداوله واستحسان الأخذ به عند الفقهاء.
هذا والله أعلم, وأسال الله المنة والعافية, واستودعك الله الذي لا تضع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
¥