فإن الحديث (بمعناه الفني الاصطلاحي) يشتهى وشهوته من أعظم شهوات الدنيا ذات الصبغة الدينية وتلبيس الشيطان على أهله كثير (نحو تلبيسه على أهل التجويد والقراءات والتفسير المجردين لذلك عن تحقيق السنة النبوية) ... لأنهم ينخدعون بأنفسهم وينخدع بهم الناس أنهم (أهل القرآن والحديث مثلاً) ..
وأمارة الانخداع وكذا أمارة دناءة المنخدعين: التبجح بالنفس والفرح بالقليل الذي أوتوا، والتكبر على الخلق، والمن على الخالق أو على دينه (إن غلبهم الخجل) ..
كل هذا في تجريد الاشتغال بالحديث عن السنة التي هي: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلوك صراط الله المستقيم ليس في الأقوال فقط ولا في ظاهر الأفعال، بل في اعتقادات القلوب وأعمالها أولاً ثم في قول اللسان وأفعال الجوارح ..
ولهذا فإن أكبر أمارات الجامعين بين إمامة السنة والحديث البالغين بذلك مرتبة الإمامة المطلقة في الدين:
القصد في السنة، لأنهم أشد الناس حباً لها وعلماً بفاقتهم إليها فلا يحبون أن يبغضوها إلا أنفسهم ولا إلى الناس ولا أن يملوها فيقتصدون فيها (لا يقصرون) ويعلمون أن أحب العمل إلى الله أدومه وأن القصد أعون على الدوام وأن الشِّرَّه عارضة والفترة لازمة كما في الحديث (إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى خير وسنة فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) ..
وإنما يلزم المرء السنة والخير حال فترته إذا كان حال شرته (نهمته وحماسه) قاصداً ضابطاً لنفسه وملكاتها وغرائزها (المتنوعة جداً) فلا يطغى في ميزان الاتباع بل يقوم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان.
ومن ذلك:
أن يعلم العبد أن الحقوق عليه متنوعة بنص الحديث النبوي (إن كان يؤمن إيماناً جازماً أنه الحق، وهو الظن به) سوى حق ربه، فلنفسه عليه حق ولبدنه أيضاً، ولزوجه، ولضيفه، ولكل مسلم على كل مسلم حقوق معلومة وللجار حقوق .. وهلم جراً
فيعطي كل ذي حق حقه _ بلا اعتداء ولا تقصير وجفاء.
فالحمد لله الذي من علينا بهذا الدين الكامل الذي هو بكل خير وفلاح كافل، فلا نحتاج معه إلى غيره، ولا مع هدي مؤديه عن الله تعالى إلينا محمد صلى الله عليه وسلم غير هديه.
والأمر الجامع في هذا كلمة واحدة: ... الصدق ...
الصدق فإنه مراد الله تعالى منا وهو يحبه ويحب أهله، ومن لم يكن من أهله فليتق الله وليكن مع أهله ما دام مؤمناً بالله تعالى داخلاً في ندائه الذي أنزله في أواخر ما أنزل في كتابه في آخر غزوة غزاها رسوله صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" ..
لأنه لا ينفع بعد خروج الروح شيء قط غير الصدق .. الصدق الذي يعلم الله تعالى أنه صدق ..
قال تعالى في آخر المائدة مخبراً عن قوله الذي _ وعزته سيقوله _ يوم القيامة:" قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز الكبير ".
حتى الصادقين إنما يسألهم عن صدقهم قال تعالى:" ليسأل الصادقين عن صدقهم"
أيش الصدق؟
الصدق في الاتباع لرسوله الذي زكاه لنا باطناً وظاهراً ورضيه في نفسه عبداً ورسولاً وارتضاه لنا إماماً وهادياً.
في أيش؟
في كل شيء في القصد أولاً فهو القائل إنما الأعمال بالنيات ثم حال القول وحال الفعل، وحال المعاملة ...
نعم هذا كمال التقوى ..
ولكن من رحمة أرحم الراحمين أنه جعل المتقين طائفتين ..
فهؤلاء طائفة؛ وهم المحسنون من المتقين ...
والطائفة الأخرى ذكرها الله تعالى مع تلك في كتابه فقال:
" سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم _ ومن يغفر الذنوب إلا الله؟!! _ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
.. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".
فالصنف الثاني من المتقين: هم المقصرون المعترفون المنكسرون الذاكرون المستغفرون ..
¥