" الإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان: مطلق ومقيد، فإذا كان مجيء رحمته أو عذابه؛ كان مقيدًا؛ كما في الحديث: " حتى جاء الله بالرحمة والخير "، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}، وقوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ}، وفي الأثر: " لا يأتي بالحسنات إلا الله ".
النوع الثاني: المجيء والإتيان المطلق؛ كقوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ}، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}، وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه، هذا إذا كان مطلقًا، فكيف إذا قيد بما يجعله صريحًا في مجيئه نفسه؛ كقوله {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أو يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، فعطف مجيئه على مجيء الملائكة، ثم عطف مجيء آياته على مجيئه.
ومن المجيء المقيد قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فلما قيده بالمفعول، وهو (البنيان)، وبالمجرور، وهو (القواعد) دل ذلك على مجيء ما بيَّنه، إذا من المعلوم أن لله سبحانه إذا جاء بنفسه؛ لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها " انتهى.
17 – ثم يواصل فضيلة الشيخ دفاعه المستميت عن الذين يؤولون الصفات، فيقول:
" ويقولون في حديث النزول: (ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا): إن المراد به تنزيل رحمته؛ إذا كيف ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار ثلث أخير في بعض البلاد، فالوقت الذي يكون عندنا بمكة مثلًا صلاة المغرب يكون في أندونسيا الثلث الأخير من الليل، وفي الوقت الذي يكون بمكة آخر الليل يكون عند غيرنا وقت الضحى أو الظهر ". . . إلخ ما قال.
- والجواب: عن ذلك أن نقول:
أولًا: ألفاظ الحديث تنفي نسبة النزول إلى غير الله؛ بأن يقال: تنزل رحمته، حيث جاء في حديث النزول أنه يقول سبحانه: " أنا الملك، من يستغفرني فأغفر له، هل من سائل فأعطيه ":
هل رحمته تقول: أنا الملك؟!
هل رحمته تقول: من يستغفرني فأغفر له، هل سائل فأعطيه؟!
هل رحمته تقول: " أنا الملك، من يستغفرني. . . إلخ؟!
ثانيًا ً: وأما الاعتراض بأن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد؛ فيجاب عنه بأن هذا الاعتراض صادر عن عدم تصوره لعظمة الله سبحانه، وعن قياس نزوله على نزول المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهذا الاعتراض أيضا ناشيء عن البحث في كيفية نزوله سبحانه، والنزول كسائر صفات الله عز وجل، نؤمن به على حقيقته ومعناه، ونكل كيفيته إلى الله عز وجل.
ونحن نقول لهؤلاء: إذا كان الله سبحانه يحاسب جميع الخلائق يوم القيامة في ساعة واحدة، ويرزق الخلائق في ساعة واحدة، ويسمع دعاء الداعين في ساعة واحدة - على اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم -، ولا تغلطه كثرة المسائل، فإذا كان قادرًا على ذلك كله؛ فهو قادر على النزول الذي أخبر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كيف يشاء، مع اختلاف ثلث الليل في سائر البلدان، والله تعالى أعلم.
18 – يدعو الشيخ الصابوني إلى ترك مناقشة المذاهب – بما فيها الصوفية أصحاب الطرق المعروفة، والذين تكثر عندهم الأخطاء – وأن نوفر طاقاتنا لحرب أعدائنا الملاحدة والشيوعيين والمنافقين.
والجواب أن نقول:
لا يمكن أن نقف صفًّا واحدًا في وجه أعداء الإسلام إلا إذا صلحت العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات والإلحاد في أسماء الله وصفاته؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
والاعتصام بحبل الله يعني الرجوع إلى الحق وترك الباطل، وإذا كانت المعاصي العملية تخل بصف المسلمين أمام أعدائهم؛ فكيف بالمعاصي الاعتقادية؟!
إنه لا يبقى في وجه الأعداء إلا أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
19 – يختم بما بدأ به من مدح الأشاعرة، وأنهم من أهل السنة، وينقل طرفًا من مقالة أبي الحسن الأشعري في كتابه " الإبانة " الذي صرح فيه برجوعه عن مذهبه الأول إلى مذهب أهل السنة، ويجعل ذلك من مزايا مذهب الأشاعرة تلبيسًا على الناس الذين لا يعرفون الفرق بين ما عليه الأشاعرة من تأويل الصفات وما استقر عليه من رأي أبي الحسن الأشعري أخيرًا، وهو الرجوع إلى مذهب أهل السنة وإثبات الصفات، وبذلك يصبح ليس له مذهب مستقل، ويكون الأشاعرة ليسوا من أتباع أبي الحسن على الحقيقة، وتكون تسميتهم بهذا الاسم تزييفًا وظلمًا لأبي الحسن ما داموا لا يقولون بما قاله في كتاب " الإبانة ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (16/ 359):
" وأما من قال منهم (يعني: الأشاعرة) بكتاب " الإبانة " الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنًا بكل من انتسب هذه النسبة، وبفتح بذلك أبواب شر " انتهى.
وكان الشيخ يريد بذلك أن من قال بما في كتاب " الإبانة " لا ينبغي له أن ينتسب إلى الأشعري؛ لأن هذا ليس قول الأشعري وحده، وإنما هو قول أهل السنة، ولأنه بهذا الانتساب يوهم أن المراد الانتساب إلى مذهب الأشعري الذي رجع عنه - وهو تأويل الصفات -، وهو مذهب باطل ومبتدع.
هذا ما أردنا تعليقه على مقالات الشيخ الصابوني الذي حاول بها تعتيم الرؤية حول مذهب الأشاعرة في الصفات، وإيهام الأغرار أنه مذهب أهل السنة.
ونسأل الله لنا وله التوفيق لمعرفة الحق والعمل به.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
¥