وهذا لا تعلق له بصفات اللّه ـ تعالى ـ قال بعضهم: قد قال اللّهتعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاًجَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف: 148]، فقد ذم اللّه من اتخذإلهًا جسدًا، و [الجسد] هو الجسم؛ فيكون اللّه قد ذم من اتخذ إلهًا هوجسم. وإثبات هذه الصفات يستلزم أن يكون جسمًا، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي. فهذا خلاصة ما يقوله من يزعم أنه يعتمد في ذلك على الشرع، فيقال له: هذا باطل منوجوه:
أحدها: أن هذا إذا دل إنما يدل على نفي أن يكون جسدًا، لا على نفيأن يكون جسمًا، والجسم في اصطلاح هؤلاء ـ نفاة الصفات ـ أعم من الجسد؛ فإن الجسمينقسم عندهم إلى كثيف ولطيف، بخلاف الجسد.
فإن أردت بقولك الجسم اللغوي ـ وهو الذي قال أهل اللغة: إنه هو/ الجسدـ قيل لك: لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدًا، وهو الجسماللغوي. فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد، والجسد هوالجسم اللغوي.
فقول القائل: لو كان مستويًا على العرش لكان جسمًا، والجسمهوالجسد، والجسد منتف بالشرع ـ كلام ملبس.
فإنه إن عنى بالجسم الجسد، كانت المقدمة الأولى ممنوعة؛ فإن عاقلًالا يقول: إنه لو كان فوق العرش لكان جسدًا، ولا يقول عاقل: إنه لو كان له علموقدرة، لكان جسدًا. ولا يقول عاقل: إنه لو كان يرى ويتكلم لكان جسدًا وبدنًا.
فإن الملائكة لهم علم وقدرة وترى وتتكلم، وكذلك الجن، وكذلك الهواءيعلو على غيره وليس بجسد.
وإن عنى بالجسم ما يعنيه أهل الكلام؛ من أنه الذي يشار إليه، وجعلواكل ما يشار إليه جسمًا، وكل ما يرى جسمًا أو كل ما يمكن أنه يرى أو يوصف بالصفاتفهو جسم، أو كل ما يعلو على غيره ويكون فوقه فهو جسم فيقال له: فالجسد والجسمبهذا التفسير الكلامي ليس هو جسدًا في لغة العرب، بل هو منقسم إلى غليظ ورقيق، إلىما هو جسد وإلى ما ليس بجسد.
/ ولذا يقول الفقهاء: النجاسة إن كانت متجسدة كالميتة فحكمها كذا، وإن كانت غير متجسدة كالبول فحكمها كذا.
وإذا قدر أن الدليل دل على أنه ليس بجسد لم يلزم ألا يكون جسمًابهذا الاصطلاح؛ لأن الجسم أعم عندهم من الجسد، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام؛ كما إذا قلت: ليس هو بإنسان، فإنه لا يلزم أنه ليس بحيوان.
فلفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعناه في عرف أهلالكلام؛ فإذا كان معناه في اللغة هو معنى الجسد ـ وهذا منتف بما ذكر من الدليل ـبطل قول من نفي الاستواء بالذات؛ أو غيره من الصفات، بأنه لو كان موصوفًا بذلك لكانجسمًا، فإن التلازم حينئذ منتف، فإحدى المقدمتين باطلة؛ إما الأولى وإما الثانية.
ونظير هذا أن يقول: لو كان له علم وقدرة لكان محلًا للأعراض، وماكان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب، فلا يكون قدوسا، ولا سلامًا؛ لأن أهل اللغةقالوا: العَرَض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه، فلو جاز أن تقوم به هذهلكان ـ تعالى وتقدس ـ معيبًا ناقصًا، وهو ـ سبحانه ـ مقدس عن ذلك؛ إذ هو السلامالقدوس.
فيقال: لفظ العَرَض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة، وبينمعناه في عرف أهل الكلام، فإن معناه ـ عند من يسمى العلم والقدرة / مطلقًا عرضًاـ: ما قام بغيره كالحياة، والعلم، والقدرة والحركة، والسكون ونحو ذلك.
وآخرون يقولون: هو ما لا يبقى زمانين. ويقولون: إن صفاتالخالق باقية، بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات، فإنها لا تبقى زمانين.
والمقصود هنا: أنه إذا قال: لو قام به العلم والقدرة لكانعرضًا، وما قام به العرض قامت به الآفات، كلام فيه تلبيس، فإن إحدى المقدمتينباطلة.
فإن لفظ العَرَض إن فسر بالصفة، فالمقدمة الثانية باطلة، وإن فسربما يعرض للإنسان من المرض ونحوه، فالمقدمة الأولى باطلة.
ونظير ذلك أن يقول: لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدثحدثًا، وقامت به الحوادث؛ لأن الاستواء فعل حادث ـ كان بعد أن لم يكن ـ فلو قام بهالاستواء لقامت به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثًا، واللّه ـ تعالى ـمنزه عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن اللّه من أحدث حدثًا، أو آوىمحدثا) ولقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
¥