أمّا ما أشرت إليهِ من طبع ِ كل ما أكتبهُ فليس ذلك من همّي ولا أنا ميّالٌ إليهِ ولا مبالٍ به، وقد كان بعضُ أبناءِ عمومتي يستميلني كتباً ورسائلَ في معانٍ مختلفةً، حتى اجتمعَ لهُ بعد ذلك جملةٌ صالحةٌ، فأرادَ طبعها ولكنّي نهيتُهُ وأعلمتهُ أنّي أبرأ منها إذا هو نشرها.
وهنا أشياءُ أخرى لا أريدُ أن أبوحَ بها، ولكنها في الجملةِ أشياءُ أساعدُ بها رِفداً، فينتحلها أهلها وينشرونها بأسمائهم وأنا بذلك راضٍ ومسرورٌ.
وليتَ الزمانَ يهيءُ لي أسبابَ التفرّغِ للكتابةِ والشعرِ، ويغنيني عن التكسّبِ من الوظيفةِ التي أنا فيها – وهي في المحكمةِ الأهليةِ هنا – ولكن ماذا أصنعُ والأمّةُ خاملةٌ كما ترونَ، فلا تكادُ تقومُ بعيشِ أديبٍ واحدٍ ليخدمها مدّة عمرهِ، دعنا من هذا الهمِّ فكم شيءٌ في مصر ضياعٌ والحمدُ للهِ ولا كفرانَ للهِ.
وذكرت قطعة البخيلِ التي نُشرت في " البيانِ " فهذه القطعة صدرُ روايةٍ طويلةٍ ممّا يُنشرُ في " المساكينِ "، وكذلك قصيدةُ (على الكواكبِ الهاويةِ) وهي أيضاً فصلٌ في المساكينِ، وقد كنتُ نظمتها لحفلةِ الأوبرا، ومن أجلِ ذلكَ لم أشرْ فيها إلى طلبةِ الأزهرِ، بل جعلتها عامّةً كما رأيتمْ.
كنتُ أحبُّ أن أطيلَ كتابي ولكن بي مرضاً من البردِ تتألمُ لهُ الصحيفةُ والقلمُ، فأعتذرُ إليكم.
والسلامُ عليكم.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
10 – يريدُ العملَ ولكنّهُ يجدُ العوائقَ
طنطا في 23 مارس سنة 1916
أيّها الأخُ:
السلامُ عليكم ورحمةُ الله، وبعدُ،
فلقد تلقّيتُ كتابكم ويسرّني أن تكونَ لكم هذه الغيرةُ على الأدبِ وأهلهِ فإن ذلكَ ممّا يدلّ على أن لكم نفساً عظيمةً تبرزُ بمواهبها شيئاً فشيئاً، حقّقَ اللهُ الأملَ فيكم، وكان لكم بعونهِ وتوفيقهِ.
وفي كتابكم فصولٌ:
فأمّا الكلامُ عن الكتّابِ والشعراءِ فلهُ وقتٌ يأتي – إن شاءَ اللهُ – بعد أن يفرغَ الذرعُ لما هو أهمّ وأولى بالتقديم ِ.
وإنّي أستشفُ من كتابكَ أنّكَ لا ترى صورتي من نفسكَ إلا في تقويمٍ فلكيّ، فمتى ذكرتني قلتَ هو الآن يوشكُ أن يلقي قلمهُ من آخرِ صفحةٍ في كتابِ الشعراءِ، وفي شهرِ كذا يكونُ قد أنجزَ ... وفي كذا يكونُ قد أنهى وهلمّ من هذا التنجيم ِ، فأنا أريدُ أن أعملَ كثيراً، ولكنّي أضجرُ وأمرضُ وأجدُ من العوائقِ أكثرَ ممّا أجدُ من الإرادةِ، وفي الثلاثةِ الأشهرِ الأخيرةِ مرضتُ نحو ثلثيها، فتركتُ المساكينَ وغيرَ المساكينِ واهتممتُ لنفسي.
ثمّ إنّ هذا الكتابَ " المساكين " سيتأخرُ أكثرَ ممّا قدّرتُ لهُ، ولا حيلةَ لي في ذلكَ ما دامت الدنيا كلّها تدورُ كالإعصارِ، وممّا يسرّكم أن مشيل بك لطف الله اشتركَ منه في مئةِ نسخةٍ مرةً واحدةً، ودفعَ ثمنها مع أنّي لم أطلبْ إليهِ، ولكنّ بعضَ الأصدقاءِ عرضَ لهُ بذلكَ.
فالكتابُ يتأخّرُ لا من ضعفٍ ولا من تقصيرٍ ولا من قلةٍ، ولكن لأنّ الأعمالَ لا بدّ أن تتأخرَ في مطابعنا، أو لأنّ كتابَ المساكينِ لا بدَّ أن يكونَ مسكيناً مثلهم ... فصبراً ... ، وأمّا الشيخُ علي فهو رجلٌ حقيقيٌّ كما وصف " البيانُ "، ولو رأيتهُ لاستولى على نفسكَ ولأعجبكَ من جنونهِ العقلُ كلّهُ ... .
وأمّا " ذكرى أبي العلاءِ " فلم أقرأهُ إلى الآن، ولا أنا أميلُ إلى قراءتهِ ولكنّي اطّلعتُ على فصلينِ قصيرينِ، أحدهما عن بغداد في " المقطمِ "، والثاني عن نشأةِ المعرّي في مجلةِ " فتاةِ الشرقِ ".
فإن كان كل ما في الكتابِ على هذا النمطِ فليسَ في الكتابِ إلا ... فإنّ فصلَ بغداد منقولٌ ببعضِ التصرّفِ عن " معجمِ ياقوت "، ومع ذلكَ ففيهِ خطأ كبيرٌ، لأنّ ياقوت وصفَ أموراً تتعلقُ ببغداد في مواد مختلفةٍ من معجمهِ، وقصرَ طه في الاطلاعِ عليهِ، ومن هنا تطرّقَ إليهِ الخطأ.
والفصلُ الآخرُ حشفٌ وسوءُ كيلةٍ – كما يُقالُ – لأن آراءِ المؤلفِ ضعيفةٌ واهيةٌ، ويخيّلُ إليّ أنَ أكبرَ غرضهِ في هذا التأليفِ أن يجيءَ بكلامٍ كثيرٍ يخرجُ في مجلدٍ ضخمٍ، فهو يزن الكلامَ بالرّطلِ ... ومع ذلكَ فربّما كان الكتابُ مفيداً وربّما كان جيّداً، ولكنّ الفصلينِ اللذينِ وقفتُ عليهما لا شيءَ ولا شيءَ.
¥