أمّا كلماتُ " المنفلوطي " فلها خبرٌ، وذلكَ أنّه ظهرت منذ 12 سنة – على ما أتذكرُ – مقالةٌ عن الشعراءِ في مجلّةِ " الثريا " كان لها دويٌ بعيدٌ واشتغلت بها الصحفُ والمجلاّتُ كلّها، ونسبتُ هذه المقالة إليّ أنا، ووصلتُ إلى الخديو فقام " شوقي وقعدَ "، ثم شمّر لها السيّدُ " البكريُّ "، وهو الذي أوعزَ إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجرهُ لذلكَ، فكتبَ المنفلوطي كلماته في مجلةِ " سركيس " وهذه الكلماتُ غيّر ترتيبها ثلاث مراتٍ، حتى صارت إلى الحالةِ التي نشرتْ بها أخيراً.
ففي المرةِ الأولى كان رأسُ شعرائها السيّدُ " البكري "، وفي المرةِ الأخيرةِ صار " شوقي " ... وهذا هو السببُ في ذم المنفلوطي إيّايّ بتلكَ العباراتِ التي كتبها عنّي.
أمّا قبلَ ذاكَ فكانَ الرجلُ يقرّظني و ... ينافقُ لي على أنّي من يومئذٍ طرحتهُ ولم أعدْ أكلّمهُ، لأنّي لا أتمسّكُ بشيءٍ كالأخلاقِ، ولذلكَ لا أرجعُ عن كلمةٍ قلتها، ومتى انصرفتْ نفسي عن شيءٍ لا تقبلُ إليهِ آخرَ الدهرِ.
فأنت ترى أنّ " المنفلوطي " لا يكتبُ عن بحثٍ ولا روايةٍ، وإنّما هي كلماتٌ يصوّرُ بها ما في نفسهِ.
وإنّي أعجبُ لسخافةِ كلمتهِ في الشيخ ِ " جاويش " و " فريد وجدي "، وهما عالمانِ من كبارِ أهلِ الفضلِ وأصحابِ الأثرِ في هذه النهضةِ، ومن ذوي الأخلاقِ الراقيةِ، ولو رأيتم الشيخَ " عبدالعزيز " لرأيتم الأدبَ والرّقةَ والذّكاءَ والأنفةَ والتواضعَ في رجلٍ واحدٍ، وهو بعدُ عالمٌ مدققٌ يحملُ شهادةَ علمِ النفسِ وفنّ التصويرِ من جامعةِ " كمبردج " وشهادة " دار العلوم "، في حين أنّ الذي كتبَ عنهُ إنّما يحملُ شهادةَ التقرّبِ من " سعد باشا زغلول "، وبهذه الكلماتِ أرادَ أن يرضيَهُ ويّرضيَ أخاهُ المرحومَ " فتحي باشا "، وفي هذا كفايةٌ.
والخلاصةُ: أنّ " المنفلوطي " يُحسنُ أن يكتبَ ولكنّ الكتابةَ غيرُ الدرسِ، وما الذي يكتبُ الحكمَ كالذي يُصدرَ الحكمَ.
فألحّوا على الشيخِ " البرقوقي " أن يستوفيَ مقالاتِ الأدبِ العصريِّ فإنّي لم أرَ خيراً منها.
كنتُ ذكرتُ لكم أنّ في " المساكين ِ " فصلاً لم يُكتب، فقد كُكتبَ – والحمدُ للهِ – وأنا مُجدٌّ في إظهارهِ، واللهُ المُستعانُ.
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتهُ.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
13 – رأيه في " البارودي "
طنطا في 5 يوليو سنة 1916
أيّها الأخُ الفاضلُ:
السلامُ عليكم ..... ،
وأمّا الباروديُّ فقد كان نابغةَ دهرهِ الذي نشأ فيهِ، ولم يكنْ في عصرهِ – أي من اربعينَ سنةٍ – أحدٌ يساويهِ، وكانت ابنتهُ قد شرعت في طبعِ ديوانهِ، ورأيتُ منه ملزمةً من خمسِ سنواتٍ، وكانت هذه الملزمةُ في حرفِ الراءِ وآخرها ص 256، فإلى ذلك العهدِ كان قد طبعَ من الديوانِ 256 صفحةً ... فهذا قدرٌ كبيرٌ، ومع ذلك فقد كان الطبعُ في القوافي التي على الراء، على أنّ الرجلَ أخبرني أنّ شعرهُ قليلٌ، وربّما لا يتجاوزُ اربعةَ آلافِ بيتِ، ولا أدري كيف هذا؟.
ولو كانت عندي تلك الملزمةُ لأعطيتها لكم، ولكنّي مزّقتها من يمئذ لأني قليل المبالاة بالشعر ... على أنك تجد نحو 200 بيت من أحسن شعر البارودي في الجزء الثاني من كتاب " الوسيلة الأدبية " للمرصفي، وهو كتاب قديم، طبع من أربعين سنة، وكان " المرصفي " استاذ الرجل.
ولا تنسى أيضا أن تطلبَ قصيدته المسمّاة " كشف الغمة في مدح سيد الأمة "، وهي مطبوعة على حدة عارض بها بردة " البوصيري " – رضي الله عنه – وتبلغُ أربعمائة بيتٍ.
والكلام في البارودي وطريقة شعره طويل، وكنت كتبت عنه مقالة في مجلة " المقتطف " بعد وفاته وذلك بطلب من أصحاب " المقتطف "، ولكنّي لا أتذكّرُ في أي عددٍ هي.
وبالجملةِ فإن الرجل شاعر فحل مجوّد وإن كان ضيق الفكر ضعيف الحيلة في إبراز المعاني واختراعها.
هذا أختمُ بالسلام.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
14 – جوابات عن ألفاظ المتكلمين وأهل البلاغة
¥