(منع الجاحظ أن يستعمل الخطيب إذا كان متكلّماً ألفاظ المتكلّمين إذا عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا وحرّم العسكري على الأديب استعمال تلك الألفاظ في أي غرض، وأوجب ابن الأثير على الكاتب أن يعرف مصطلحات كل صناعة وأن يلم بكل علم وفن، فسألتُ شيخنا الرافعي - رحمه الله – عن هذه الآراء الثلاثة، وسألته كذلك عمّا أخذه ابن الأثير على الصابيء من أنه يرادف السجع في المعنى الواحد، ثم رغبتُ إليه أن يفضي برأيه فيما ذكرهُ المنفلوطي – رحمه الله – من أن الشعرَ الجاهلي شعر ساذج، فجاءني هذا الجواب الشامل):
أيها الأخ:
السلامُ عليكم ورحمة الله ... وبعدُ،
فإنه يسرني أن أعرف لكم هذه العناية بالأدب والتوفر عليه، ولعلكم واجدون فيه شيئاً من التعزيةِ عمّا ترونهُ في حادثاتِ الدهر من سوء الأدبِ ... أما الأسئلة فإني مجيبكم عنها بإيجاز ولو أعان الله على إظهارِ ما بقي من أجزاء " تاريخ آداب العرب " لرأيتم فيه الجواب مطولاً مبسوطاً.
أما كلام " الجاحظ " فصحيح لأنه يريد بالمتلكم الرجل من أهل الجدل وعلماء الكلام وهذا اذا هو استعمل ألفاظ صنعتهِ في مخاطبةِ الناس من أهله وجيرانهِ، أو الكتابة إلى من هو في حكمهم أو الخطابة عليهم كان ذلك مرذولا منه، وعد متكلفا، ودخل في باب الغريب الذي يسمونه " العي الأكبر "، ولكن الجاحظ لم يمنع ان يفيض المتكلم مع المتكلمين بمثل تلك الالفاظ بل هو نبه على ان ذلك محمود منه.
والأصل هو ما ورد في الحديث: ((خاطبوا الناس على قدر عقولهم))، وصاحب " المثل السائر " لا يرمي في كلامه الى ما أروده " الجاحظُ "، بل هو يريدُ أن يلم الكاتب بمصطلحات كل صناعة ويشارك في كل علم وفن، إذ يجد في ذلك مادة وربما احتاج إليها في توليد معنى او في الكتابة عن واحد من أهل تلك الصناعات او في ديوان من دواوين الإنشاء القديمة، والتي كانت تتناول أكثر أمور الدولة يمئذ ففيها كاتب الرسائل، وكاتب الخراج، وكاتب الحساب، وكتّاب آخرون، وكانت تلك أغراض الكتابة من حيث هي صناعة.
على أن ألفاظ العلوم الخاصة بها ممّا يصطلح عليه لا يجوز ان يستعان بها في الإنشاء إلا لغرض يستدعيها، وإلا كانت من العي والفهاهة، ونزلت منزلة الحشو ووقعت أكثر ما تقع لغوا، وهذا هو غرض " العسكري ".
وأما عيب صاحب " المثل السائر " على " الصابيء " في ترادف السجع فأنا أراه في موضعه من النقد، لأن السجع سناعة لا سجية، والترادف قد يحسن في الاسلوب المرسل لمتانة السياق وقوة السرد، كما تجد في كتابة " الجاحظ " وغيره، ولكن الذي يسجع لا يضطر إليه لأن كل سجعة فاصلة فهو من باب الحشو لا غير.
و" الصابيء " على قوته في الترسل ضعيف في السجع، لا يبلغ فيه منزلة " البديع " ولا جرم كان ذلك من ضعفهِ فيه.
وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه " المنفلوطي في ذلك " ولكن شعر الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدودها فيقع فيه ما يقع في سواه من القوة والضعف، ويكون فيه الجيد والسخيف.
على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها.
وفي الجزء الثالث من " تاريخ الأدب " زهاء أربعممائة صفحة في تاريخ الشعر العربي وفلسفته وأدواره إلخ.
على أني أحب لك أن لا تحفل كثيرا بأقوال المتأخرين وكتابتهم ومحاوراتهم فيما يختص بالأدب العربي وتاريخه، لأنهم جميعا ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه، فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل.
يسوءني ما تصف من حالك وتقلّب الدهر بك ... فدع الأمر للذي يقدر الأمور واصبر إن الله مع الصابرين ... .
كتبت على عجلة ساعة الانصراف ففكر في الجواب واستخرج من قليله ما لا يكون به قليلا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
4 أكتوبر سنة 1916
الداعي مصطفى صادق الرافعي
15 – رأيه فيما يرتقي به الكبراء
طنطا 19 أكتوبر سنة 1916
أيّها الأخ:
السلام عليكم،
¥