وقد وصل كتابكم وشكوتم فيه ما لقيتم من فلان وفلان فلا تحسبوا الكبراء قد صاروا كبراء عفوا بلا ثمن، بل الكذب والتمليق من حقهم على الناس ومن حق من هو اكبر منهم عليهم، وهل ينهض بذي الحاجة إلا ذو المروءة، ومتى كانت المروءة في هؤلاء الكبراء خلقاً طبيعاً؟ ... .
والسلامُ عليكم ورحمة الله.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
16 - رأيه في أن نصف الفقر فقر كاذب
9 ديسمبر سنة 1916
أيها الأخ:
السلام عليكم ورحمة الله ... ، وبعد،
فقد تألمت لما في كتابكم، والأمر لله، على أن رأي الشيخ علي أن نصف الفقر فقر كاذب، لأن الإناسان يتألم بالوهم أكثر مما يتألم بالحقيقة، وربما كان الضيق الذي يمضي به وقته أو المصيبة التي لا بد أن تضمحل فلا يتألم المصاب أو المستضيق على قدر ذلك، ولكن على قدر سخطه وبكل ما في نفسه من الغيظ، ولا يرضى بذلك دون أن يضيف إليه تاريخ مصايبه كلها، فيجمع على نفسه ألم العمر لحادث ساعة واحدة أو يوم واحد أو بضعة أيام.
إن الفيلسوف لا يغضب لأنه يعرف ألا منفعة في الغضب، ولأن الفلسفة الصحيحة تجعل صاحبها كأنه قطعة من الزمن، وماذا يضر الليل أنه مظلم؟، وماذا ينفع النهار أنه مضيء؟، وإنما الزمن منهما جميعا وكيف تريد تريد أن تكون رابط الجأش إلا عند الخوف؟، وأن تكون شجاعا إلا عند الفزع؟، وأن تكون فيلسوفا إلا عند المصايب؟.
ليس من فضيلة إلا هي قائمة على أنقاض رذيلة، ولا من رذيلة إلا كان أساسها فضيلة متهدمة، فكن رجلا أكثره من روحه، فإنك إن فعلت وحاولت أن تستطيع رأيت أكثر الألم بعيد عنك، ورأيت في كل ضائقة بابا مفتوحا من السماء.
وأنت الآن تحمل روحك فتنوء بك وتعجزك ولكنك يومئذ تكون روحك هي التي تحملك فتخف بها وتخف بك، وحسبك من السعادة هذا المعنى.
هون عليك يا أبا رية، وقل مع القائل:
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا فلا بد منه مكرها غير طائع
وما أنت وحدك المسكين، فقد تقدمك من لا يحصيهم إلا الله، وكل شيء ينتهى، وإنما الشأن أن لا ينزل الرجل عن حد الرجولة، وما أنت حي كما تريد أن تكون، ولا كما تريد أن تكون الحياة، إنما أنت حي بشروط، ولعل منها هذا الذي تعانيه، والغيب مجهول، فلست تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
اجتهد أن تستتم في الكتابة والأدب – كما قلت لك – فإن لم تساعدك المعيشة فلا تساعدها على نفسك.
والسلام عليكم ورحمة الله.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
كتبت هذه الأسطر أمس ثم طويت الكتاب لعلي أغير منه أو أزيد فيه، ثم أنسيته وما نبهني الآن إلا مرور نسوة وأطفال صغار يلطمن ويصرخن ويحاولن أن يعلن سكان السماء بمصيبتهن في عائلهن، الذي قضت عليه محكمة الجنايات، وكأنها قضت عليهن معه، فقلت وأين هذا مما يشكو منه أبو رية؟.
اللهم إنه لا نعمة كالعافية والأمن، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
فاحمد الله على أنك لا تشكو إلا حرارة الماء، فإنك ترى من يشكو لهب الجمر!، ورزق ربك خير وأبقى.
17 – رأيه في بيت من شعر البارودي
أيها الأخ:
يسرني أن يكون فيما كتبته إليك بعض السلوى وعسى تأخذ نفسك بأدب الحكماء والفلاسفة، فإن نصف هذا الأدب ازدراء الدنيا وحوادثها .... .
وأما بيت البارودي فهو كما ذكرتم وقد أخطأ الشارح في ضبطه وشرحه، كما أخطأ في كثير، ولقد ابتلي البارودي – رحمه الله – في حياته بنكبات عدة، وابتلي بعد موته بهذا الشارح الذي أفسد عليه ديوانه، وصرف رغبات الناس عنه بهذا الخلط الذي جمعه وسمّاه شرحا.
وحماسة البحتري كتاب طبعه اليسوعيون في بيروت وهو في حجم جزء من ديوان البارودي، واختار فيه البحتري أشعارا كثيرة، على نحو ما فعل أبو تمام في حماسته ... ، ولم يبق بعد مختارات البارودي حاجة إلى هذا الكتاب، إلا لمن يريد غرضا خاصا، أما من أراد الشعر ففي المختارات ما يكفي.
ولا أدري لماذا لا تتفق لك الآمال التي ذهب زمانها، كأنما ذهب زمنك أيضا، فأنت الآن كالشيخ علي يعيش في زمن مطلق لا يقبل التقسيم إلى ماض وحاضر ومستقبل، فكل الأمر لله وانتظر ما يطلع به الغيب.
والسلام عليكم ورحمة الله.
16 ديسمبر 1916
مصطفى صادق الرافعي
18 – بينه وبين جرجي زيدان
طنطا في 13 يونيو سنة 1917
حضرة الأخ:
السلام عليكم، وبعد،
¥