ولقد وصلَ كتابكم الآن وإنّي أعجلُ بالرّدِ لأنّ عليَّ أعمالاً كثيرةً أريدُ أن أفرغَ لها، أمّا كتبُ المنطقِ فلا فائدةَ منها إلا في تفتيقِ الذهن ِ، وهذه الفائدةُ على أتمّها في كتبِ الكلامِ العربي " كالمقاصدِ " و " المواقف " وغيرهما، على أنّ ذلكَ لا يمنعُ من قراءةِ المنطقِ العربي اليوناني.
ولكنّ المتأخرينَ جعلوا هذا الفرعَ من العلمِ غايةً في الترتيبِ والسهولةِ والفائدةِ – وأريدُ بالمتأخرينَ علماءَ الإفرنجِ -، ومن أجزاءِ " الفلسفةِ النظريةِ " جزءٌ خاصٌ في المنطقِ.
ورأي – أنا – أن علمَ المنطقِ كعلمِ البلاغةِ لا فائدةَ في كليهما لمن لا يستطيعُ أن يكونَ منطقيّاً وبليغاً بدرسهِ وبحثهِ.
وإنّي أذكرُ لكم خبراً عن نفسي:
فقد كنتُ أوّل الطلبِ منذُ 17 سنةً قصدتُ مصر واجتمعتُ هناكَ بطائفةٍ من أهلِ الفكرِ، وكانَ منهم " عبدالعزيز الثعالبي "، وهو رجلٌ تونسيٌ مؤرخٌ سياسي كان يدرس في أوربا بعض فروع المشرقيّاتِ، ومن أمرهِ أنّه لا يتكلّمُ إلا الفصحى، فساجلتهُ الحديثَ بلغتهِ وطريقتهِ المنطقيةِ – ولم أكن قرأتُ في المنطقِ شيئاً غير فصلٍ واحدٍ من كتابٍ أزهريٍّ يبتديءُ به المجاورون وقد أنسيتُ اسمه -، فقال لي أخيراً: على من درستَ المنطقَ؟، قلتُ لهُ: من الذي وضعَ هذا العلمَ؟، قالَ: أرسطو، قلتُ: ولم لا تكونُ قريحتي في ذلكَ كقريحةِ أرسطو؟ ... .
أسوقُ لكم هذه العبارةَ لتعلموا أنّ الفنّ نفسه غيرُ ضروريٌّ على ما هو في كتبهِ، فإنّ زمن المصطلحاتِ المنطقيّةِ قد مضى، وكانت هذه المصطلحاتُ لازمةً للجدلِ، ولا جدلَ اليومَ ... ويمكنكم أن تبدأوا القراءةَ في الكتبِ المقرّرةِ لطلبةِ الأزهرِ، وهي شروحٌ وحواشٍ كلّها مفيدٌ ... .
وأمّا الكلامُ عن الشعراءِ والكتّابِ، فلا أستطيعُ أن أقولَ قولاً أؤخذُ بهِ، ورأيّ علماءِ العربِ في ذلك هو رأي فلاسفةِ النقدِ اليومَ، وذلك أنّهم يكرهون الكلامَ عن رجل ٍ لا يزالُ حيّاً، ولكن متى ختم تاريخهُ تكلّموا فيهِ، لأنّ من الناسِ من ينبغُ في آخرِ عمرهِ نبوغاً يفوقُ الوصفَ، ومنهم من يكونُ نبوغهُ في الكهولةِ أو في الشبابِ وهكذا، وفي " حاصلِ المطلوباتِ " أنّ كتابَ الشعراء والكتّابِ لا يكونُ إلا بعد سنين طويلةٍ – إن فسح اللهُ في الأجل ِ -، إذ هو في الحقيقةِ تاريخٌ للأدبِ العصري.
أمّا كلماتُ " المنفلوطي " فلها خبرٌ، وذلكَ أنّه ظهرت منذ 12 سنة – على ما أتذكرُ – مقالةٌ عن الشعراءِ في مجلّةِ " الثريا " كان لها دويٌ بعيدٌ واشتغلت بها الصحفُ والمجلاّتُ كلّها، ونسبتُ هذه المقالة إليّ أنا، ووصلتُ إلى الخديو فقام " شوقي وقعدَ "، ثم شمّر لها السيّدُ " البكريُّ "، وهو الذي أوعزَ إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجرهُ لذلكَ، فكتبَ المنفلوطي كلماته في مجلةِ " سركيس " وهذه الكلماتُ غيّر ترتيبها ثلاث مراتٍ، حتى صارت إلى الحالةِ التي نشرتْ بها أخيراً.
ففي المرةِ الأولى كان رأسُ شعرائها السيّدُ " البكري "، وفي المرةِ الأخيرةِ صار " شوقي " ... وهذا هو السببُ في ذم المنفلوطي إيّايّ بتلكَ العباراتِ التي كتبها عنّي.
أمّا قبلَ ذاكَ فكانَ الرجلُ يقرّظني و ... ينافقُ لي على أنّي من يومئذٍ طرحتهُ ولم أعدْ أكلّمهُ، لأنّي لا أتمسّكُ بشيءٍ كالأخلاقِ، ولذلكَ لا أرجعُ عن كلمةٍ قلتها، ومتى انصرفتْ نفسي عن شيءٍ لا تقبلُ إليهِ آخرَ الدهرِ.
فأنت ترى أنّ " المنفلوطي " لا يكتبُ عن بحثٍ ولا روايةٍ، وإنّما هي كلماتٌ يصوّرُ بها ما في نفسهِ.
وإنّي أعجبُ لسخافةِ كلمتهِ في الشيخ ِ " جاويش " و " فريد وجدي "، وهما عالمانِ من كبارِ أهلِ الفضلِ وأصحابِ الأثرِ في هذه النهضةِ، ومن ذوي الأخلاقِ الراقيةِ، ولو رأيتم الشيخَ " عبدالعزيز " لرأيتم الأدبَ والرّقةَ والذّكاءَ والأنفةَ والتواضعَ في رجلٍ واحدٍ، وهو بعدُ عالمٌ مدققٌ يحملُ شهادةَ علمِ النفسِ وفنّ التصويرِ من جامعةِ " كمبردج " وشهادة " دار العلوم "، في حين أنّ الذي كتبَ عنهُ إنّما يحملُ شهادةَ التقرّبِ من " سعد باشا زغلول "، وبهذه الكلماتِ أرادَ أن يرضيَهُ ويّرضيَ أخاهُ المرحومَ " فتحي باشا "، وفي هذا كفايةٌ.
¥