على أن ألفاظ العلوم الخاصة بها ممّا يصطلح عليه لا يجوز ان يستعان بها في الإنشاء إلا لغرض يستدعيها، وإلا كانت من العي والفهاهة، ونزلت منزلة الحشو ووقعت أكثر ما تقع لغوا، وهذا هو غرض " العسكري ".
وأما عيب صاحب " المثل السائر " على " الصابيء " في ترادف السجع فأنا أراه في موضعه من النقد، لأن السجع سناعة لا سجية، والترادف قد يحسن في الاسلوب المرسل لمتانة السياق وقوة السرد، كما تجد في كتابة " الجاحظ " وغيره، ولكن الذي يسجع لا يضطر إليه لأن كل سجعة فاصلة فهو من باب الحشو لا غير.
و" الصابيء " على قوته في الترسل ضعيف في السجع، لا يبلغ فيه منزلة " البديع " ولا جرم كان ذلك من ضعفهِ فيه.
وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه " المنفلوطي في ذلك " ولكن شعر الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدودها فيقع فيه ما يقع في سواه من القوة والضعف، ويكون فيه الجيد والسخيف.
على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها.
وفي الجزء الثالث من " تاريخ الأدب " زهاء أربعممائة صفحة في تاريخ الشعر العربي وفلسفته وأدواره إلخ.
على أني أحب لك أن لا تحفل كثيرا بأقوال المتأخرين وكتابتهم ومحاوراتهم فيما يختص بالأدب العربي وتاريخه، لأنهم جميعا ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه، فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل.
يسوءني ما تصف من حالك وتقلّب الدهر بك ... فدع الأمر للذي يقدر الأمور واصبر إن الله مع الصابرين ... .
كتبت على عجلة ساعة الانصراف ففكر في الجواب واستخرج من قليله ما لا يكون به قليلا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
4 أكتوبر سنة 1916
الداعي مصطفى صادق الرافعي
15 – رأيه فيما يرتقي به الكبراء
طنطا 19 أكتوبر سنة 1916
أيّها الأخ:
السلام عليكم،
وقد وصل كتابكم وشكوتم فيه ما لقيتم من فلان وفلان فلا تحسبوا الكبراء قد صاروا كبراء عفوا بلا ثمن، بل الكذب والتمليق من حقهم على الناس ومن حق من هو اكبر منهم عليهم، وهل ينهض بذي الحاجة إلا ذو المروءة، ومتى كانت المروءة في هؤلاء الكبراء خلقاً طبيعاً؟ ... .
والسلامُ عليكم ورحمة الله.
الداعي مصطفى صادق الرافعي
16 - رأيه في أن نصف الفقر فقر كاذب
9 ديسمبر سنة 1916
أيها الأخ:
السلام عليكم ورحمة الله ... ، وبعد،
فقد تألمت لما في كتابكم، والأمر لله، على أن رأي الشيخ علي أن نصف الفقر فقر كاذب، لأن الإناسان يتألم بالوهم أكثر مما يتألم بالحقيقة، وربما كان الضيق الذي يمضي به وقته أو المصيبة التي لا بد أن تضمحل فلا يتألم المصاب أو المستضيق على قدر ذلك، ولكن على قدر سخطه وبكل ما في نفسه من الغيظ، ولا يرضى بذلك دون أن يضيف إليه تاريخ مصايبه كلها، فيجمع على نفسه ألم العمر لحادث ساعة واحدة أو يوم واحد أو بضعة أيام.
إن الفيلسوف لا يغضب لأنه يعرف ألا منفعة في الغضب، ولأن الفلسفة الصحيحة تجعل صاحبها كأنه قطعة من الزمن، وماذا يضر الليل أنه مظلم؟، وماذا ينفع النهار أنه مضيء؟، وإنما الزمن منهما جميعا وكيف تريد تريد أن تكون رابط الجأش إلا عند الخوف؟، وأن تكون شجاعا إلا عند الفزع؟، وأن تكون فيلسوفا إلا عند المصايب؟.
ليس من فضيلة إلا هي قائمة على أنقاض رذيلة، ولا من رذيلة إلا كان أساسها فضيلة متهدمة، فكن رجلا أكثره من روحه، فإنك إن فعلت وحاولت أن تستطيع رأيت أكثر الألم بعيد عنك، ورأيت في كل ضائقة بابا مفتوحا من السماء.
وأنت الآن تحمل روحك فتنوء بك وتعجزك ولكنك يومئذ تكون روحك هي التي تحملك فتخف بها وتخف بك، وحسبك من السعادة هذا المعنى.
هون عليك يا أبا رية، وقل مع القائل:
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا فلا بد منه مكرها غير طائع
وما أنت وحدك المسكين، فقد تقدمك من لا يحصيهم إلا الله، وكل شيء ينتهى، وإنما الشأن أن لا ينزل الرجل عن حد الرجولة، وما أنت حي كما تريد أن تكون، ولا كما تريد أن تكون الحياة، إنما أنت حي بشروط، ولعل منها هذا الذي تعانيه، والغيب مجهول، فلست تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
¥