الملتزمين بأصول العلوم الإسلامية كما قررتها القواعد الدينية وتفاصيلها وكما شكلتها الحاجات الاجتماعية وصاغتها التطورات الذاتية للثقافة الإسلامية.
و" ... كان أهم ما التفت إليه المفكرون الإسلاميون في نقد المنطق اليوناني خلوه من ملاحظة المضمون جملة أي شكلية هذا المنطق (16) ...
ومرد هذا الموقف الحاسم من المفكرين الإسلاميين إلى أسباب كثيرة، ليس من بينها رفض الإفادة من التراث البشري الذي يعد ملكاً مشتركاً للحضارات الإنسانية بأسرها، بل يمتد هذا الموقف من المنطق اليوناني عن التحليل الدقيق له من وجهة النظر الإسلامية.
ومن تلك الأسباب:
1 - إنه مشكوك فيه إلى حد كبير، ويرجع هذا الشك إلى أسباب كثيرة، أهمها عدم قدرة المترجمين أنفسهم على الإحاطة بالتراث اليوناني ..
2 - أنه يرتكز على دعامتين لا سبيل إلى تجريده منهما: ميتافيزيقا أرسطو، واللغة اليونانية التي ينبني المنطق في جانب كبير من تحليلاته للقضية عليها.
3 - شكلية هذا المنطق، فهو مجرد من كل عنصر مادي، بل مجرد ميزان صوري شكلي يراد به استعماله في العلوم على اختلافها، فهو ميزان عقلي صرف.
4 - أنه لا يتسم في ذاته - بالسلامة أيضاً.
ومن الطبيعي أن ينشب الصراع حاداً بين هاتين المدرستين في أواخر القرن الثاني الهجري، واستمر في بعض الحالات إلى القرن الرابع، وفي حالات أخرى طيلة القرن الخامس أيضاً (17).
وكان النحو أحد العلوم العربية التي تأثرت في هذه المرحلة بالفكر الإغريقي بمعطياته الميتافيزيقية وقوانين المنطق فقد تأثر فيها التفكير النحوي في جملته ببعض الأفكار الفلسفية اليونانية كما تأثر بعض النحاة بالبناء المنطقي لهذا الفكر، وكان لهذا صداه الخافت أولاً في دراسات النحاة لظواهر اللغة التركيبية وتقنينهم لها، ثم تدخل آخر الأمر في مجال تقنين الظواهر وتفسيرها وتحديد أصولها جميعاً (18).
ويمكن أن نلمس بذور التأثير المنطقي في القياس في هذه المرحلة، فقد كان هذا التأثير (على حد تعبير الدكتور أبو المكارم) " أشبه بتسلل الحذر منه باقتحام القادر " (19) ومع ذلك " فطن كثير من النحاة – وبخاصة في بداية هذه المرحلة – إلى أن الغزو الفكري يمكن أن يبدأ بالتسلل، فهاجموا الاتجاهات المنطقية نظراً وتطبيقاً .. لكن هذا الموقف ما لبث أن تغير في أخريات هذه المرحلة، إذ اكتفى النحاة برفض المنطق نظرياً في الوقت الذي قبلوا فيه بعض نتائجه تطبيقياً" (20).
وأخذ تأثير المنطق الشكلي في القياس اللغوي في هذه المرحلة يظهر في بعض الأقيسة وبعض الحدود وبعض التعليلات حيث كانت البداية هي استخدام المنطق الأرسطي لتنمية الحصيلة اللغوية باشتقاق الجديد من الألفاظ والصيغ " فقد أحس اللغويون والنحاة بضرورة الأخذ بالقياس الشكلي الصوري المنطقي لتنمية الحصيلة اللغوية حتى تلاحق التطور الاجتماعي وتلبي احتياجاته المتعددة التي يقصر المحفوظ من اللغة عن التعبير عنها" (21).
وهكذا تم إلحاق صيغ بأخرى في الحكم لمجرد المشابهة بينهما اعتماداً على المنطق الشكلي.
" ومن ثم ليس من شك في أن الأخذ بالقياس الشكلي في هذه المرحلة في مجال "الصيغ" و " الأحكام النحوية "، هو الذي مهد بصورة حاسمة لنمو التأثيرات المنطقية وتراكمها في البحوث النحوية في المرحلة التالية حتى أصبح الركيزة الأساسية " للحكم" النحوي، والمحور الرئيسي " للاستدلال " في كافة المجالات التي تفرع إليها البحث النحوي، بما في ذلك تلك الجوانب التي ظلت - طيلة هذه المرحلة - بمنأى عن التأثر بالقياس، وفي مقدمتها الأحكام النحوية التي تعتمد على " النصوص " المطردة، بعد أن أصبحت هذه الأحكام النحوية - وإن اعتمدت على النصوص - لا تثبت " بالنص " وإنما تثبت " بالعلة " (22)
وكما تأثر القياس في هذه المرحلة بالمنطق الشكلي تأثرت العلل النحوية أيضاً، حيث تغير هدفها من تسويغ "الموجود بالفعل" من الظواهر اللغوية و" المقنن في الواقع" من القواعد النحوية فأصبح التعليل " محور البحث النحوي "، بعد أن أصبحت العلة ركيزة الحكم في القياس بمفهومه الجديد المستمد من المنطق (23).
وهكذا مهدت هذه المرحلة للسيطرة التامة للمنطق الشكلي في المرحلة التالية.
التحول التام للقياس الشكلي:
¥