كانت نشأة العلوم اللغوية بعامة والنحو وأصوله بصفة خاصة نشأة إسلامية عربية خالصة استجابة للظروف التي أدت إلى هذه النشأة، واتبع النحاة منهجاً إسلامياً خالصاً، حتى كانت ترجمة الفكر الإغريقي عامة والمنطق بصفة خاصة في عهد المأمون (ت 198هـ)، فتجاور المنهج الإسلامي مع المنهج المنطقي لكن المنهج الإسلامي كان هو الأغلب وتأثيره أقوى في النحو العربي وأصوله، وظل الأمر هكذا حتى كان منتصف القرن الرابع الهجري " فانعكس الوضع، فإن الخصائص المنطقية قد أصبح لها الغلبة على فكر النحاة وآثارهم، وصارت الخصائص الذاتية للمنهج الإسلامي من القلة والضآلة بحيث لم تعد ملموسة في الأصول العامة، وإنما يمكن أن تدرك آثارها في بعض جزئيات هذه الأصول " (24).
" لقد كان تجاور النظريتين في الأصول العامة للتفكير النحوي فترة طويلة كافيّا لإحداث قدر من التلاحم بين النظريتين، بحيث لم يستطع النحاة التفرقة بين الخصائص الإسلامية والخصائص المنطقية في الأصول النحوية، وقد ساعد على ذلك - دون شك - الوحدة الشكلية لبعض الأصول النحوية منطقياً وإسلامياً، ففي الأصول الإسلامية قياس وفي المنطق قياس، وفي الأصول الإسلامية تعليل، وفي المنطق تعليل، ... ولكن فات النحاة أن القياس والتعليل والتعريف في المنهج الإسلامي - كلاً - يختلف في خصائصه وشرائطه وغاياته عن نظيره في المنطق الإغريقي " (25).
إذن بدأ هذا التحول من الفكر الإسلامي إلى المنطقي من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وتظل خصائص هذا التحول " تمتد عبر القرون التالية حتى العصر الحديث، فإن الدراسات النحوية التقليدية المعاصرة تتبع في دقة اتجاهات النحاة في هذه المرحلة، وتلتزم بأصولهم عن وعي حيناً ودون إدراك أحياناً، ودون تمرد على هذه الأصول دائماً " (26) .. وقد بلغ القياس ذروته في هذه المرحلة (27) على يد أبي علي الفارسي (ت 377هـ)، وتلميذه ابن جني (ت 392هـ) فنادوا بذلك الرأي المشهور: " ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب " (28)، وقد بلغ من اعتزاز أبي علي بالقياس أن روي عنه أنه قال: " لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحبّ إليّ من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية " (29) وهكذا نهض هذان الإمامان بالقياس نهضة لم يحظ بمثلها أحد قبلهما ولا بعدهما حتى اليوم.
أما الفارسي فقد عشق القياس الذي بهره وأخذ على فكره السبل، فصار يمتحن به كل مسألة تعرض له، وعلى رسومه يصدر فتواه ويعتقد آراءه .. فقد سأله ابن جني يوماً: " هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أم لا؟ " فقال: " كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم، فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا، وما حظرته عليهم حظرته علينا، وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا، وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا، وما بين ذلك بين ذلك " (30)
وقد سار ابن جنى على منهج أستاذه أبى على الفارسي في القياس، ويتضح ذلك من كثرة الآراء التي رواها عنه في كتابه " الخصائص"، كما أن ابن جنى قد خطا بالقياس إلى الأمام خطوات واسعة.
وممن أيدوا مذهب أبي علي الفارسي في القياس-الزمخشري (ت 538هـ)، فقد كان يرى الاحتجاج بأقوال المولدين، والقياس عليها، مستشهداً في تفسيره ببيت لأبي تمام، لأنه يرى أنه ممن يوثق بقوله، وقد تبعه في هذا العلامة الرضي (ت 688هـ) فقد استشهد بشعر لأبي تمام في عدة مواضع من شرحه لكافية ابن الحاجب " (31)
ويرى الشيخ الطنطاوي في كتابه (نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة) أن استشهاد الرضي بأقوال المحدثين مما يؤخذ عليه فيقول، " إنما المؤاخذة عليه في استشهاده بشعر المحدثين، والنحاة لاينظرون إليه في اتخاذه اساساً للقوانين النحوية وقد ذكر منه مقداراً كبيراً سأذكر لك بعضاً منه .. " (32) ثم يذكر بعض الأبيات ومنها استشهاده بقول بشار في باب" الحال ":
إذا أنكرتني بلدة أونكِرتها خرجت مع البازي عليّ سواد
وبقول أبي الطيب المتنبى:
قبلتها ودموعي مزج أدمعها وقبلتني على خوف فماً لفم
وبقوله:
بدت قمراً وبانت خُوط بان وفاحت عنبراً ورنت غزالاً
وفي باب اسم الفاعل بقول ربيعة:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغربن حاتم
¥