تم يعقب بقوله:" ولا ريب أن استشهاده بالمحدثين إحدى الهنات الملاحظة عليه" (33)
إذا كان هذا موقف الشيخ الطنطاوي وأمثاله، نجد أحد الباحثين يرى أن هؤلاء الذين لايرون الاستشهاد بأقوال المولدين هم غلاة اللغويين وهم المتزمتون أو المحافظون الذين قسموا لنا الظواهر اللغوية أقساماً:
1 - المطرد في القياس والسماع.
2 - المطرد في السماع الشاذ في القياس.
3 - المطرد في القياس الشاذ في السماع.
4 - الشاذ قياساً وسماعاً.
وهؤلاء الذين يقصدهم الدكتور " أنيس " هم الذين تأثروا في أحكامهم التقعيدية والتعليمية معاً بخصائص الحكم الفلسفي، وبصفة خاصة بما يميز هذا الحكم من طرد الأحكام الممتدة عن بعض الظواهر إلى ظواهر أخرى، اكتفاء" بنوع من الاتساق النظري بينها دون الإعتماد على ركائز يقينية، وإنما تشيده التصورات الذهنية وحدها، بصرف النظر عن الوجود الواقعي لها، ومن ثم صح عند ابن جني أن يجعل من بين أقسام الكلام من حيث الاطراد والشذوذ: " ما كان مطرداً في السماع شاذاً في القياس، وما كان مطرداً في القياس شاذاً في السماع " دون أن يحس بتناقض هذا التفاوت في الحكم بين السماع والقياس، إذ لم يعد المسموع والمروي ذا قيمة مؤثرة في الفكر النحوي بعد أن أغنى عنهما الإدراك العقلي للنصوص اللغوية، ومن هنا فإن ما يبدو عجيباً من تناقض الأحكام مع الواقع اللغوي يبدو مبرراً منطقياً مع منهج البحث النحوي في هذه المرحلة (34).
يتضح لنا إذن أن الصراع كان ناشباً بين المجددين والمحافظين، فينتصر المجددون حين تبرق بارقة من الحرية في القول، كتلك التي كانت على يد المعتزلة، وتخبو جذوتهم حين تشيع روح المحافظة كتلك التي كانت أيام المتوكل الذي نكل بالمعتزلة ومن على شاكلتهم، فقد كان لحرية الرأي في الأمور الفلسفية والاجتماعية صدى في البحوث اللغوية أيضاً (35).
ولكن السمة الغالبة على هذه الفترة كانت الخضوع التام والتبعية الكاملة للمنطق في كافة البحوث النحوية، ويظهر أثر ذلك بإلقاء نظرة فاحصة على النتاج الثقافي اللغوي والنحوي منه بصفة خاصة، وقد رأينا كيف دفع ذلك ابن جنى إلى تقسيم الظواهر اللغوية إلى أربعة أقسام لا وجود لها في الواقع اللغوي، لكن القسمة العقلية المنطقية تقتضي ذلك حتى أننا نجده يذكر لنا النوع الرابع الشاذ قياساً وسماعاً ويذكر له بعض الكلمات القليلة وينسبها إلى بعض البغداديين ولم يسمّ أحداً منهم، ولست أدرى كيف يكون من اللغة ذلك الشاذ في القياس والسماع كليهما، وكيف يعد قسماً من أقسام الظواهر اللغوية؟!
وقد عقد الدكتور أبو المكارم في كتابه" تقويم الفكر النحوي " فصلاً كاملاً تناول فيه صور التأثير الإغريقي في النحو العربي، ويهمنا هنا ما يتعلق بمادة هذا البحث، وهو التأثير الإغريقي في مجال القياس، فيقول:
" وتتجلي تلك التبعية وهذا الالتزام في امتداد خصائص القياس النحوي في هذه المرحلة عن الخصائص المميزة للقياس المنطقي " (36).
فشكلية القياس النحوي واضحة في تحليل المقيس، وبصورة خاصة في مجال قياس الظواهر، حيث يلحق النحاة ما يشاءون من الأحكام بما يشاءون منها، ويعتبرون ما يلحقونه به أصلاً وما يلحقونه فرعاً، ولا يتحرجون في هذا المجال من أن يقيسوا ما ثبت من الأحكام على ما اختلف في ثبوته، كما لا يترددون في إلحاق ما يشكون فيه بما يشكون فيه أيضاً، دون أن يستندوا في كل ذلك إلى سند موضوعي أو يعتمدوا على أساس من الملاحظة الدقيقة المستوعبة للظواهر، ومن ثم فإن القياسات النحوية لم تبدأ بما كان ينبغي أن تبدأ منه بتصنيف الظواهر وتحديد علاقاتها لاكتشاف مقوماتها وبلورة خصائصها مما كان يقدم أساساً مقبولاً للتعامل المباشر مع الظواهر من حيث إلحاق بعضها ببعض، ومن ثم امتداد الأحكام من بعضها إلى بعض، وإنما على العكس من ذلك بدأت بنقل الأحكام من ظاهرة إلى أخرى بتطبيق القواعد الشكلية للإلحاق، فقفزت إلى النتائج دون أن تلم بالمؤثرات الموضوعية التي أسلمت إليها.
وشكلية القياس النحوي جلية أيضاً في المقيس عليه، وبشكل بارز في القياس على القليل وعلى الشاذ.
¥