وأما الجامعون بين الإمامتين فأفراد لا يخفَون منهم راجعوا كلمة ابن مهدي في أصولها لتعرفوا من سماهم من الجامعين لهما ومن رأى انفراده بإحداهما ..
وكم يقع الغلط في هذا يظن دهماء الناس بل كثير من فضلاء المتفنين في أصناف العلوم كلَّ إمام في الحديث إماماً في السنة بالمعنى الخاص لا العام المطابق أو المندرج في معنى الحديث على الخلاف في اصطلاح الناس في ذلك ..
وهذا الغلط أوهم كثيراً من الناس أن أئمة السنة يختلفون فيها، وهذا هو الباطل بعينه فإن أئمة السنة أبعد الناس عن خلافها وعن الاختلاف فيما بينهم من جهتها، فإنهم أكثر الناس علماً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال في حجة الوداع:" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها .. "
وأعلم الناس بوفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو قول الله تعالى:" وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون"
كما يغلط كثير من عوام المتسننة إذا خرجوا عن السنة بـ"نوع"جهل وهوى فيخرجون بعض الأعلام الكبار المعروفين بالتقدم في الحديث عن الإمامة فيه فيشاركون بهذا في التطفيف الذي نهى الله عنه ويكونون من المخسرين الذين يبخسون الناس أشياءهم، وهو من الفساد الذي نهى الله عن جنسه وأفراده في كتابه وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
وإذا تقرر الفرق بين الإمامتين في السنة وفي الحديث ...
فالإمام أحمد من الذين جمعوا بينهما بخلاف شعبة فإنه لا ريب في إمامته للحديث الإمامة الكبرى وأنه فيه بمنزلة أمير المؤمنين في الناس في وقته بشهادة الأئمة بذلك، ولكنه في السنة بأخص معانيها وهو المقتضي لكونه قدوة وإماماً لغيره فيها ليس من بابة أحمد ولا الأوزاعي من أهل عصره مثلاً ..
هذا مع أنه من أكابر أهل السنة في الجملة، وهذا شيء والإمامة في السنة المقتضية لكون الموصوف بها حقاً أهلاً للاقتداء به فيها شيء آخر ..
وهذا أمر لا يعرفه من لم يعرف شعبة المعرفة التامة فمن راجع ترجمته وجد أن الحديث (من حيث هو فن، ومن حيث اشتماله على أمور زائدة على الاشتغال بمحض ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان أغلب عليه، وهذا كان أليق به فيما يظهر وقد نفع الله به وصار قدوة لمن بعده في اتنقير عن أحوال الرواة وتحرير سماعاتهم فإنه برز في ذلك وإن لم ينفرد به في عصره ولا عمن تقدمه ..
والإمامة في الحديث هي الأشهر والأسير عند الناس .. فإن الحديث بمعناه الاصطلاحي وهو العلم المخصوص الذي فيه الاشتغال بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبمن له به اتصال ولا سيما في النقل عنه، ولا ريب أن الإمامة المطلقة في الدين تفتقر إلى رسوخ القدم في هذا ..
ولكن التبتل إليه والزهد فيما عداه من أمر الدين بسبب "إدمان"التشعب في جزئياته الدقيقة واستعمال كثرة الجدال والمراء واللغو وعدم استشعار شرف النسبة الحديثية والمقصود الأعلى من الاشتغال بهذا العلم الشريف هو من أكبر القواطع (و "أخفاها") عن بلوغ الإمامة المطلقة في الدين وخلافة سيد المرسلين وكمال الوراثة عنه ..
فمن كمال فضيلة أهل الإمامة في الحديث خاصة وهم ساداتهم الذين لم يقدر لهم بلوغ الإمامة المطلقة في الدين والتوصل إليها بالجمع بين إمامة الحديث وإمامة السنة تجدهم ينكسرون ويتواضعون وبما هم عليه يعترفون بل ينادون ويجهرون ويستعظمون من التقصير في الإمامة المطلقة لعلو هممهم ما يستصغره الأقزام ..
فكلمة شعبة بل كلماته وكذا غيره كهشام الدستوائي ونحوهم هي _والله أعلم _من هذا الوادي ..
وهو من أكبر مناقبهم رحمهم الله تعالى ورفع درجتهم، وتجاوز عنا وعنهم ..
وأما كلمة الإمام أحمد فلا مدخل لها في تزكية النفس كما يدرك المتأملون لأحواله بل كلمة صادرة عن رسوخ قدم في الإمامة في الدين ..
فما السر في بلوغ أحمد ونظرائه لها .. ؟
إنه أولاً وآخراً توفيق الله عزوجل ولا ريب عند مؤمن في هذا لأن الله تعالى يختار لذلك من يصفيه ويجتبيه بعد تمحيصه ..
ولكن أهم معالم هذا السبيل معرفتهم أن معقد الهدى هو القرآن وأنه كلام الله عزوجل الذي لا عدل له، وأنه الهدى والشفاء والنور والرحمة كل حرف منه فيه ذلك (الألف واللام والميم) مثلاً ..
وأنه منتفع به بكل وجوه الانتفاع بالكلام وأعظم فلا كلام أنفع منه ..
¥