ولهذا لما ذكرت لأحمد كلمة يحيى بن أبي كثير أو نحوه:" السنة قاضية على القرآن" لم يجسر على هذا التعبير مع علمه بحسن المقصود به بل اختار له تعبيراً آخر أجمل واليق (وأدل على علاقته القوية بالقرآن ووده له كما هو الشأن معه في الحديث) ..
وأمر آخر محصته التجارب من جماعات في عصور متباينات: أنه كما لا يهتدى إلى الحق في متشابه القرآن إلا بالسنة، فلا يهتدى إلى الحق في متشابه الحديث إلا بها ..
والمقصود بالسنة هنا هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وأنه كان لا يقدم على القرآن شيئاً ..
والمؤمن لا يقدم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع القرآن: تلاوة قولية وعملية شيئاً، لأنه هو صلى الله عليه وسلم المقطوع بأنه كان يتلوه حق تلاوته، والذي يتبع النبي صلى الله عليه وسلم كان ممن يتلوه حق تلاوته ويدخل في شهادة الله تعالى في كتابه لهؤلاء بالإيمان إذ قال:" أولئك يؤمنون به".
**
أملي أخيراً من نفسي وإخوتي مراجعة كيفية تعامل الإمام أحمد ونظرائه مع القرآن ..
وإنما خصصت أحمد لأنه تقدم في أصل المشاركات نقل كلامه وأدير التعليق عليه، مع كونه من أجل مَن جمع _ بعد القرون الثلاثة قرن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ومن تلاهم من التابعين بإحسان ثم من تلاهم من الأتباع بإحسان للتابعين بإحسان _ إمامةَ الحديث وإمامة السنة وثبتت وراثته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحس والدلائل المعتبرة في الشرع ..
والقرآن حبل الله فينا طرفه بيد الله والآخر بأيدينا ..
وإنما تقع الفتن بالتفريط فيه ليس في هذِّه والتطريب بقراءته ولا بالجدال وتشقيق الكلام في الخوض في معانيه بل هذا من أصول الفتن وأسبابها ..
والمقصود الغائي من الفتن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم التي قضى الله تعالى أن تكون خير أمة أخرجت للناس وأن ترث رسالته في الأرض بعد اختتام النبوة بنبيها هو تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين المظهرين للكفر والطعن في الرسول وما جاء به والمخفيه ..
وبحسب رجوع الناس إلى القصد والحق في معاملة القرآن تنقشع الفتن عنهم ..
وأعلم الناس بالقرآن هم كما قال الفاروق:" أصحاب السنن"، أي: أئمة السنة النبوية لا المكثرين من "مجرد" رواية الحديث أو التنقير عن دقائق متعلقاته .. فإن هؤلاء تدخل فيهم الأهواء وهم لا يشعرون بل أكثر منافقي أهل الأهواء لأهل السنة النبوية ينشؤون فيهم ويندسون بينهم ..
فإن الحديث (بمعناه الفني الاصطلاحي) يشتهى وشهوته من أعظم شهوات الدنيا ذات الصبغة الدينية وتلبيس الشيطان على أهله كثير ... لأنهم ينخدوعن بأنفسهم ..
كل هذا في تجريد الاشتغال بالحديث عن السنة التي هي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلوك صراط الله المستقيم ليس في الأقوال فقط ولا في ظاهر الأفعال، بل في اعتقادات القلوب وأعمالها أولاً ثم في قول اللسان وأفعال الجوارح ..
ولهذا فإن أكبر أمارات الجامعين بين إمامة السنة والحديث البالغين بذلك مرتبة الإمامة المطلقة في الدين: القصد في السنة، لأنهم أشد الناس حباً لها وعلماً بفاقتهم إليها فلا يحبون أن يبغضوها إلا أنفسهم ولا إلى الناس ولا أن يملوها فيقتصدون فيها (لا يقصرون) ويعلمون أن أحب العمل إلى الله أدومه وأن القصد أعون على الدوام وأن الشِّرَّه عارضة والفترة لازمة كما في الحديث (إن لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى خير وسنة فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) ..
وإنما يلزم المرء السنة والخير حال فترته إذا كان حال شرته (نهمته وحماسه) قاصداً ضابطاً لنفسه وملكاتها وغرائزها (المتنوعة جداً) فلا يطغى في ميزان الاتباع بل يقوم الوزن بالقسط ولا يخسر الميزان.
ومن ذلك: أن يعلم العبد أن الحقوق عليه متنوعة بنص الحديث النبوي (إن كان يؤمن إيماناً جازماً أنه الحق، وهو الظن به) سوى حق ربه، فلنفسه عليه حق ولبدنه أيضاً، ولزوجه، ولضيفه، ولكل مسلم على كل مسلم حقوق معلومة وللجار حقوق .. وهلم جراً فالحمد لله الذي من علينا بهذا الدين الكامل الذي هو بكل خير وفلاح كافل، فلا نحتاج معه إلى غيره، ولا مع هدي مؤديه عن الله تعالى إلينا محمد صلى الله عليه وسلم غير هديه.
والأمر الجامع في هذا كلمة واحدة: الصدق، فإن الله تعالى يريده ويريد أهله ..
الصدق في الاتباع حال القصد وحال القول وحال الفعل، وحال المعاملة هذا كمال التقوى ..
ولكن من رحمة أرحم الراحمين أنه جعل المتقين طائفتين فهؤلاء طائفة وهم المحسنون من المتقين، والطائفة الأخرى ذكرها الله تعالى مع تلك في كتابه فقال:
" سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم _ ومن يغفر الذنوب إلا الله؟!! _ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
.. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".
فالصنف الثاني من المتقين: هم المقصرون المعترفون المنكسرون الذاكرون المستغفرون ..
وأما أوليك فهم المجاهدون حقاً لأنهم لا يزالون في جهاد عظيم مع النفس والهوى (وما أخفى الهوى)، والشيطان (هؤلاء الأعداء الملازمون الملحون القاطنون الظاعنون ليلاً ونهاراً من البلوغ إلى خروج الروح لا فرق بين شاب وشيخ)
لنعرف أنوذج هؤلاء اقرؤوا خطبة الصديق سيدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ولي خلافته من "البداية والنهاية".
ومن من أهل الإيمان والخشية والإخبات (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) إذا ما اطلع أو تذكر أحوال أولئك ثم نظر إلى نفسه لم يمقتها في ذات الله عزوجل ويزدرها ويقول نحواً مما قال شعبة وغيره من أئمة الحديث الكبار تغمدهم الله تعالى برحمته ورضوانه، آمين.
معذرة على الإطالة يا إخواني، فالظاهر أنني كلما قلبت صفحات الموقع ثم بدا لي المشاركة في أمر أثر علي مجموع ما اطلعت عليه حال كتابتي في موضع منها .. غفر الله لي ولكم ..
¥