وقال الزمخشري: (تدبر الأمر: تأمّلَهُ، والنظر في أدباره، وما يؤول اليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل، فمعنى تدبر القرآن؛ تأمل معانيه وتبصر ما فيه) (). وهذا التدبر والفهم للمعاني يتطلب التريث وعدم العجلة في قراءته، قال تعالى: {لا تحرك لسانك لتعجل به، إنا علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرآناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} [سورة القيامة آية 16 - 19]، قال ابن كثير: (هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله ? في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل - إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى: جمعه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وايضاح معناه) ().
وذكر الرازي في قوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} مسألتين:
الأولى: جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته، وهذا يدل على الشرف العظيم لجبريل عليه السلام.
والثانية: لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل، ولكن يجب أن تسكت حتى يتم جبريل عليه السلام القراءة، فإذا سكت جبريل فخذ أنت بالقراءة) ().
والقرآن لم ينزل مرة واحدة كالكتب السماوية السابقة، وإنما أنزل متدرجا، لأجل فهمه وتطبيقه، ولأجل تعليمه وتثبيته في النفوس، قال تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً} أي أنزل آية آية مبينا مفسرا، ولهذا قال {لتقرأه على الناس} أي لتبلغه للناس وتتلوه عليهم، {على مكث}، أي مهل {ونزلناه تنزيلا} [سورة الإسراء آية 106]، أي؛ شيئا بعد شيء، وهذا دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه () حيث كان يبين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
ومما يقتضيه هذا التطبيق العملي للقرآن أن يكون مستحضرا في الذهن وأن لا ينساه، لذلك كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [سورة الأعلى آية 6]، وفي هذا بشارة من الله سبحانه لرسوله أنه سيقرؤه القرآن ولا ينساه، وقد ذكرت في كيفية ذلك الاقراء والتعليم وجوه:
أحدها: أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظا لا تنساه.
ثانيا: انا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ في المرة الواحدة حفظا لا تنساه.
ثالثا: انه تعالى أمره في أول السورة بالتسبيح، فكأنه تعالى قال: واظبْ على ذلك ودم عليه، فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين، ويكون فيه ذكرك وذكر قومك، ونيسرك لليسرى، وهو العمل به.) ().
وهذه الأمور التي ذكرها العلماء تقتضي المواظبة والتكرار لما يقرأ، لذلك كانت الخطوة الثانية في التعليم وهي (العرض) مهمة في سبيل الثبات والديمومة على الحفظ، لذلك كان جبريل عليه السلام يعارضه في قراءة القرآن كل سنة في رمضان مرة، وفي العام الذي قبض فيه ? عارضه بها مرتين، وكانت العرضة الأخيرة هي التي عليها المصحف الذي بين أيدينا ().
وبعد هذا وذاك ففي القرآن تيسير من الله لحفظه وتعلمه حيث قال: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر آية:17]، وذكر العلماء وجوها لهذا التيسير منها:
1 - تيسير حفظه حيث لم يكن قبل القرآن شيء من كتب الله يحفظ عن ظهر قلب.
2 - تيسير الاتعاظ به حيث أتى به بكل حجة.
3 - جعله يعلق بالقلوب، ويستلذ في السماع، فلا يسأم.
4 - جعله معجزة لرسول الله ? حيث تحداهم به، ولا يسع أحد انكاره فهو تذكرة لكل أحد ().
يتلخص من هذه الأصول التي يتلمسها الباحث في المنهاج الذي اتبع في تعلم الرسول ? انه كان مبنيا على أمرين هما: التلقي والعرض.
ويرافق هذين الأمرين أمور هي:
1 - الانصات والاستماع التام وعدم التعجيل حتى يتم جبريل عليه السلام قراءته.
2 - التدرج في الحفظ وعدم تجاوز الآيات ذوات العدد.
3 - فهم المعاني وإدراك المطلوب من الآيات القرآنية.
4 - العمل مع العلم، وهو المنهج التطبيقي لما يوحى، حيث وصف الرسول ? بأن خلقه القرآن.
5 - التكرار لما قرأه، والمواظبة على ذلك لئلا ينسى.
- 3 -
¥