هذه الأصول الأولى هي التي إتبعها الرسول ? في تعليم أصحابه القرآن وزاد على ذلك أن أمرهم بكتابته، إذ ما كان شيء من القرآن الكريم ينزل إلا أمر كتاب الوحي بإثباته، فكانت الكتابة خير عامل مساعد لتعليم القرآن، علما أن الكثير منهم كان يعتمد ذاكرته في الحفظ دون أن يعرف الكتابة، إذ وهبهم الله قلوبا حافظة وألسنة لافظة.
ففي قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء إلى بيت أخته فاطمة وفيه زيد، كان الصحابي الجليل خباب بن الأرت - رضي الله عنه - يقرئهما سورة طه في صحيفة () ومن اهتمامه بالكتابة جعل فداء الأسير من قريش بعد معركة بدر تعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة.
وكان رسول الله ? قد رسم لهم المنهج في تعليم القرآن على نحو ما قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - أن رسول الله ? كان يقرئهم عشر آيات، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل معا) (). وهؤلاء الذين ذكرهم كانوا قد جمعوا القرآن الكريم على عهد رسول الله ? وغيرهم كثير. ()
فكان رسول الله يقرئ بعضا، ويسمع من بعض، ويطلب من بعض أن يقرأ عليه. فهذا أبى بن كعب يأتيه رسول الله، ويقول له: ((إني أمرت أن أقرأ عليك، وفي لفظ؛ إني أقريك القرآن، قال: الله سماني لك، قال: نعم، فبكى أبي)) ().
وهذا أبو موسى الأشعري ((كان من نجباء الصحابة، وكان من أطيب الناس صوتا، سمع النبي ? قراءته، فقال: لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود)) ().
وهذا عبد الله بن مسعود يقول: ((قال لي رسول الله ? (أقرأ علي فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: نعم، أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [سورة النساء آية:41] فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان)) ().
وابن مسعود هو الذي كان يقول: ((حفظت من في رسول الله ? سبعين سورة)) ().
هذه الروايات تطلعنا على الأسلوب الذي كان يتبعه الرسول ? في تعليم أصحابه، حيث كان يقرئهم، ويطلب منهم القراءة عليه فيجيزهم على ذلك، ويسمع منهم، ويتأثر بقراءتهم، ويشجعهم على ذلك ويمتدحهم، والرواية الأخيرة تطلعنا على كثرة التكرار لما يقرأه عليهم، إذ لم يكن ابن مسعود رضي الله عنه ليحفظ سبعين سورة من الرسول مباشرة مرة واحدة، أو مرتين في قراءة الآيات، بل سمعها منه مرات عديدة حتى حفظها.
وكان يشجعهم في تعليم غيرهم ويوجههم إلى ذلك حيث كان يدفع بمن يدخل في الاسلام إلى أصحابه لتعليمه القرآن، ويوضح هذا ما ذكره الصحابي الجليل عبادة بن الصامت إذ يقول كان رسول الله ? يُشغل فإذا قدم رجل مهاجر إلى رسول الله ? دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلى رسول الله ? رجلا، وكان معي في البيت، أعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن، فانصرف انصرافه إلى اهله، فرأى أن عليه حقا، فأهدى إلي قوسا لم أر أجود منه عودا، ولا أحسن منه عطفا، فأتيت رسول الله? فقلت ما ترى يا رسول الله فيها؟ قال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) ().
هذه الرواية تفيد أمورا: منها أن الرسول ? بعد أن رسم لهم المنهج في التعليم مرنهم على تعليم غيرهم، وتحفيظهم إياه بالتكرار لضبطه. وأنه نهاهم عن أخذ الأجرة على قراءة القرآن ليكون أخلص للقرآن في الدعوة، وأدعى إلى تجريد النفوس مما عند الناس طلبا لما عند الله، يحدوهم حديثه الشريف ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) () , كما كان يبعث بمن يتقنون القرآن إلى الأمصار والبوادي من أحياء العرب الذين يدخلون في الاسلام، يعلمونهم القرآن، ويفقهونهم في الدين، فهذا مصعب بن عمير بعث به رسول الله ? إلى المدينة بعد بيعة العقبة (وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمي المقرئ بالمدينة مصعب) (). وهكذا كان يفعل بالصحابة من الذين أتقنوا القرآن في أحياء العرب حيث يبعث بهم معلمين ومرشدين.
- 4 -
¥