وقال ابن قتيبة: كان الناس في عصر النبي r أصنافاً: منهم كافر به مكذب، وآخر مؤمن به مصدق، وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً؛ فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس، وقال: فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل. قال: ووحّد وهو يريد الجمع، كما قال: ? يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ? (الانفطار:6)، و: ? يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ? (الانشقاق:6)، و: ? وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ? (الزمر: من الآية8). ([8])
وهذا - وإن كان له وجه -؛ فسياق الكلام يأباه؛ فتأمله، وتأمل قوله تعالى: ? يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ?، وقوله: ? إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ? (يونس:96)، وقوله: ? وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? (يونس:99)، وهذا كله خطاب واحد متصل بعضه ببعض.
ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النبي r قالوا: الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك. وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم، وهو وقوع الشك منه والسؤال. وقد بيّنا أنه لا يلزم إمكان ذلك، فصلاً عن وقوعه
فإن قيل: فإذا لم يكن واقعاً، ولا ممكناً فما مقصود الخطاب والمراد به؟
قيل: المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد، وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بذلك وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه؛ فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب. فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة، وأدلها على المقصود، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط، ولم يسأل قط، ولا عرض له ما يقتضي ذلك
وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته: من شك فليسأل؛ فرسولي لم يشك ولم يسأل.) ([9])
الدراسة:
تضمن كلام ابن القيم السابق مسألتين:
المسألة الأولى: في المخاطب بهذه الآية:
هذه المسألة فيها عدة أقوال ذكرها المفسرون، وقد ذكر ابن القيّم منها ثلاثة:
القول الأول: أن الخطاب على ظاهره للنبي r ، وليس فيه دلالة على وقوع الشك، ولا السؤال؛ لأن الشرط لا يدل على وقوع المشروط، بل ولا على إمكانه. فالنبي r لم يشك، ولم يسأل. وهذا ما رجحه ابن القيم رحمه الله.
القول الثاني: أن الخطاب للنبي r ، والمراد غيره؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره.
القول الثالث: أن الخطاب ليس للنبي r ، وإنما هو للشاكين من الناس، خاطبهم الله تعالى في هذه الآية، وقال: فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد r فسل. وهذا القول – وإن كان له وجه - يأباه سياق الآية – كما ذكر ابن القيّم -؛ لأن الخطابات السابقة، واللاحقة كلها موجهة للنبي r .
المسألة الثانية: في المراد بالذين يقرأون الكتاب من قبل النبي r :
ردّ ابن القيم على قول من قال:: إن كنت في شك من كونك مكتوباً عند أهل الكتاب في كتبهم فاسأل المؤمنين منهم كعبدالله بن سلام وغيره. ونص على أنه لا يتوافق مع معنى الآية ومقصودها، وأنه لا يقبل من الناحية التاريخية؛ لأن إسلام ابن سلام إنما كان في المدينة بعد الهجرة، وهذه السورة مكية. وأيضاً؛ كيف يؤمر رسول الله r أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه؟!.
هذا ما ذكره ابن القيم في هاتين المسألتين، وأما أقوال أئمة التفسير؛ فتظهر من خلال هذا العرض:
¥