قرّر ابن جرير في أول تفسيره للآية ما نقله عنه ابن القيّم في كلامه السابق، وذكر بعد ذلك أن النبي r لم يشك، وأن هذه الخطاب جار على أسلوب العرب في الخطاب حيث يقول القائل منهم لمملوكه: "إن كنت مملوكي فانته إلى أمري"، والعبدُ المأمور بذلك لا يشكّ سيده القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: "إن كنت ابني فبرَّني"، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه. قال ابن جرير: (وهذا من ذلك، لم يكن r شاكاً في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى بذلك من أمره كان عالماً، ولكنه جلّ ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضاً؛ إذ كان القرآن بلسانهم نزل.)
ثم ختم تفسيره للآية بالتنبيه على أنه لو قال قائل: (إن هذه الآية خوطب بها النبيّ r ، والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوّته r ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيهاً له على موضع تعرُّف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه ..... كان قولاً غير مدفوعة صحته.) ([10])
وبهذا يعلم أن قول ابن جرير موافق لما قرره ابن القيّم من نفي الشك عن النبي r ، وأن هذا الأسلوب لا يدل على وقوع الشك، ويتبين كذلك أنه يصحح القول الثاني.
وأما المسألة الثانية؛ فقد اختار غير ما رجحه ابن القيم، وذكر أن المراد: المؤمنون من أهل الكتاب
وبدأ ابن عطية بذكر قول قاله بعض المتأولين، وهو أن "إن" هنا بمعنى ما النافية، ثم ذكر أنّ هذا خلاف ما عليه الجمهور، وهو أنها شرطية على بابها، ثم قال مرجحاً: (والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي r والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض)
وقرّر ابن عطية كذلك: أنّ الذين يقرأون الكتاب من قبل هم من أسلم من بني إسرائيل، كعبد الله بن سلام وغيره. ([11])
وأشبع الرازي المسألة الأولى بحثاً، وفصّل القول فيها تفصيلاً حسناً، وسأذكر أهم ما أورده عند تفسيره لهذه الآية:
بيّن أن في الآية احتمالين: الأول: أن يكون الخطاب فيها للنبي r . والثاني: أن يكون الخطاب لغيره.
وعلى الاحتمال الأول تحتمل الآية وجوهاً عدة، هي أقوال للمفسرين. وقد ذكر سبعة وجوه، أهمها وجهان:
الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره. ويدل على صحة هذه الوجه أمور:
الأول: قوله تعالى في آخر السورة: ? قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِي ? (يونس: 104)؛ فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.
الثاني: أن الرسول r لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.
والثالث: أنه بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته، مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة، لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل محرف.
فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول r ، إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد؛ فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير رعية؛ فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه الخطاب إلى ذلك الأمير، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.
الوجه الثاني: أن قوله: " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ فافعل كذا وكذا " قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع أو لم يقع، ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط. والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق؛ لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين؛ فكذا ههنا؛ هذه الآية تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع؛ فليس في الآية دلالة عليه. وفائدة إنزال هذه الآية على الرسول r هي تكثير الدلائل وتقويتها، مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر. ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
¥