وورد في الحديث المرفوع في السنن (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثم قرأ ? مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ?] الزخرف: 58 [(87) وقال بعض السلف (88): إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل.
وقال مالك: أدركت أهل هذه البلدة؛ وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم (89) - يريد المسائل -.
وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا، ويقول: يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول: هو كذا، هو كذا يهدر في كل شيء (90).
وكان يكره الجواب في كثرة المسائل، ويقول: قال اللَهُ - عز وجل – ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ?] الإسراء: 85 [فلم يأته في ذلك جواب.
وقيل له: الرجل له علم بالسنة يجادل عنها؟
قال: لا، ولكن ليخبر بالسنة؛ فإن قبل منه وإلا سكت (91).
وقال: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب العبد (92).
وقال: إنه يُقسي القلب، ويورث الضغن (93).
وكان يقول - في المسائل التي يسئل عنها كثيراً -: لا أدري (94).
وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.
الشَّرْحُ
.... ما يهمه الدليل، وإنما يهمه أن يعرف أن هذا القول قد قاله فلان من الناس، والقول عنده ما قال فلان، ولو خالف الدليل، إذ أن الحق عنده يعرف بالرجال، لا أن الرجال يعرفون بالحق، والصواب العكس؛ وهو أن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، لا أن الحق يعرف بالرجال، والتعصب الفقهي احتدم في العصور المتأخرة بين الشافعية والحنفية، حتى إن الحنفية قالوا: لا يحل للحنفي أن يتزوج الشافعية إلا عند الضرورة قياسا على الكتابية (95)!!
وبلغ بهم الأمر إلى رد النصوص إذا خالفت قول الإمام المعين؛ فقد قال الكرخي وغيره: ما وجدتم من قول إمامنا مخالفا للكتاب أو السنة فإنه الكتاب أو ما جاء من الكتاب والسنة مخالفا لقول إمامنا فإنه مؤول أو منسوخ (96)!
فإما أن يكون مؤولا، له معنى آخر غير مقصود، وإما أن يكون قد وقع فيه النسخ، وهل يقع النسخ بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم -؟!
فهذا التعصب في غاية الخطورة يورث صاحبه البعد عن النصوص، وقد أورد المصنف أقوالا عن عمر بن عبد العزيز، وعن أحمد، وعن مالك، وعن غيرهم من أئمة الهدى والدين، أقوالا تبين وجوب التمسك بالسنة ولو كنت وحدك؛ فالحق أحق بالاتباع، ولو خالفه الناس.
ومن المشاكل في هذا الباب أن البعض منهم يتصدى إلى الفتوى بغير علم، فيسأل فيقحم نفسه في المسائل الكبار التي لا يحسن التعامل معها، مع أن الأئمة كانوا يتورعون عن الفتوى، وكانوا إذا جاءهم سائل = كل منهم يحيل إلى أخيه (97).
حتى في المسائل التي يختلفون فيها، كل منهم يحيل إلى أخيه، ورعا، وإيثارا، وتواضعا لله – عز وجل -.
هذا الإمام مالك – رحمه الله تعالى – يسأل عن أربعين مسألة؛ فيجيب عن اثنتين ويقول في الباقي: لا أدري!
فلما اعترض السائل - قال له: أنت إمام المدينة تقول في كل هذه المسائل: لا أدري؟!
قال له: اذهب إلى كل الأمصار، وقل: إنني سألت مالكا، فقال: إنه لا يدري (98).
وليس الحال كحال البعض - الآن -، ممن يتصدون للفتوى، ويفتون بغير علم، ويفتون الشباب بما يضيعهم، وما يضيع مستقبلهم، وما يضيع عليهم دينهم، بإفراط، أو تفريط، فالواجب البُعد عن هذا التعصب، ثم بين الشيخ – رحمه الله – أن هذا التعصب أفضى بهم إلى الجدل، والجدل في غاية الخطورة، وقد نهينا عن الجدل إلا بالتي هي أحسن، والجدل من سمات الكفار والمنافقين والكفار، ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ?] الحج: 3 [.
ومنهم من يجادل من أجل تحقيق باطل، أو إخفاء حق - والعياذ بالله -، من هنا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنا زعيم ببيت ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا (99).
والجدل والمراء المنهي عنهما هما الجدل بغير حق،] ومن [يجادل بغير علم؛ ليصل إلى مأرب معين، قال الإمام مالك رحمه الله -: أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد – صلى الله عليه وسلم – لجدله (100)؟
أو لذلك الذي اشتهر بالجدل وعرف بالجدل، تترك السنة من أجل هؤلاء = هذا عين الباطل، وكذا سائر الأئمة.
أما المناقشة لإعلاء كلمة الله، ولتقرير المسائل العلمية بشرط أن يتخذ المناقشُ آداب الحوار، وآداب النقاش، وآداب الخلاف منهجا له؛] فهذا أمر مطلوب [، وهذا لا يتحقق إلا بالإفادة من كتب الأقدمين؛ ولذلك أقول: إنه يجب على طالب العلم أن يقرأ - قبل أن يدخل في مسائل الخلاف - كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى –؛ فإن من يقرأ هذا الكتاب يعرف احترام الأئمة، واحترام فقه الأئمة، ويعطي كل ذي حق حقه (101).
فالبعد عن الجدل غنيمة كبرى، لاسيما إذا عرفت أن هناك من هو أعلم منك، وأقرب منك إلى السنة.
فلابد من البعد عن الجدل بكل أحواله، اللهم إلا مباحثات، ونقاش هادئ في المسائل التي فيها وجهات نظر من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف.
¥