ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين = وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم؛ فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله = كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأَوْلى: كالثوري، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة – أيضاً -؛ فإن هؤلاء كلَّهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم، وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءةُ ظنٍّ بهم، ونسبته لهم إلى الجهل، وقصور العلم، ولا حول ولا قوة إلا باللَه.
ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: أنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً.
وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً.
وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً، وأكثر تكلفاً.
وقال ابن مسعوداً - أيضاً -: إنكم في زمان كثير علماؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه، كثير خطباؤه؛ فمن كثر علمه، وقلَّ قوله = فهو الممدوح، ومن كان بالعكس = فهو مذموم.
الشَّرْحُ
هناك فهم لدى البعض بأن كثرة الكلام = دليل على الأحقية، وأن من كثر كلامُه، وشقق الأساليب، ونوع الإنشاءات، ودخل في صنوف البيان، والبديع، والكنايات، وأغرب في ذلك، وأكثر من التأليف بأساليب مختلفة، هذا هو المقياس عند البعض في العلم؛ فيظن أن العلم عند من كثر كلامُه، ونسي من يتصور ذلك أن الله – عز وجل – في كتابه قد بين كل شيء في أوجز عبارة وألطف إشارة في كتاب عجزت العرب أن يأتوا بمثل آية، أو سورة، أو عشر سور مثله، بعد أن تحداهم الله به، وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم – أوتي جوامع الكلم؛ انظر إلى قوله – صلى الله عليه وسلم – مثلا: (قل آمنت بالله ثم استقم) (125) (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) (126).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: اتق الله حيثما كنت (127).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: البر حسن الخلق (128).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: إن الحلال بَيِّن، وإن الحرام بَيِّن وبينهما أمور مشتبهات (129).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (130).
وأحاديثه الكثيرة التي توخَّى فيها قلة الكلام مع كثرة الفوائد التي تنتدرج تحت هذا الكلام الوجيز، من هنا يُنَنَّبه الإخوة طلبة العلم إلى أن كثرة تشقيق العبارات ليست هي الدليل على سعة العلم، وإلا فالبعض من الناس يتكلم من الصباح إلى الليل ما يسكت، أوتي حنجرة، وأمورا تجعله لا ينتهي من الكلام، وخير الكلام – كما يقال - ما قلَّ ودَلَّ.
فلا نعبأ بكثرة التشقيقات الواردة في عبارات المتأخرين، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – حذر أن يتخلل المسلمُ بلسانه كما تتخلل البقرةُ بلسانها (131).
وقال: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم (132).
? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ?] البقرة: 204 - 205 [.
خلاصة هذه المسألة: أن العلم ليس بكثرة الكلام، وإنما العلم بقال الله، وقال رسوله؛ ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز في وصف الصحابة: إنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبا، وأقلها تكلفا، وأعمقها علما (133).
وكان أحدُهم لا يتكلم إلا لماما؛ إذا دعت الحاجة إلى الكلام، وكانوا لا يكثرون الكلام بدون ضرورة؛ لأن كثرة الكلام = توقع في الأوهام، وزوغ الأفهام؛ فمن كثر كلامه كثر سقطه وغلطه؛ لذلك يعني روي عن عمر بن عبد العزيز، وعن الإمام أحمد، وعن مالك، وعن غيرهم: أن الصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا أقل الناس كلاما. ومع هذا هم أنفعهم للناس، يليهم التابعون، ثم من جاء بعدهم، وكلما توسع الناس وتأخروا كلما زاد الكلام الذي في كثير من الأحيان ليس له معنى مفيد.
إذًا العبرة - يا إخواتاه! - بمدلول الكلام، لا بكثرة تشقيقه، وبكثرة نحته.
¥