وكنت أتساءل .. هل صديقي أرسطو التقط أحد الفكرتين من مجلس أصدقائه بتوعين الأمسيات الفكرية، والفكرة الأخرى من مجلس آخر، ثم تبناهما كلاهما دون أن يستوعب التناقض بينهما، أم أن أصدقاءه أصحاب الأمسيات الفكرية يتبنون هم أيضاً هذا التناقض دون وعي؟!
بصراحة .. لست أدري .. لكن دعنا نواصل طرائف أرسطو ..
وأتذكر مرةً في أحد مناسبات الزواج أنني كنت وصديقي أرسطو من المدعوين، وقد أخذنا ركناً قصياً من الصالة وأخذنا ندردش قليلاً، وسرعان مااكتظت الزاوية ببعض المعارف والأصدقاء وتحولت لورشة حوار فكري ممتع، فتحدث أحد الجلوس عن سوء التنظيم والترتيب في الحفلة، وغياب التخطيط المسبق عن هكذا احتفالات، وهل هذه خصيصة سعودية أم هي شأن عام؟
وهاهنا أطلق صاحبي أرسطو قهقهةً متصلة كأنه يريد بها قطع بقية الأصوات تمهيداً لطرح رأيه، فلما سكت الجميع قال صاحبي أرسطو: ياسيدي السبب هو أن الصحوة الدينية التي هيمنت على فكرنا الاجتماعي تعاني من قيمة دونية منحطة لقضية الترتيب والتنظيم والتخطيط، الصحوة تبث فكر الفوضى الدينية، أو على قولة عيال الحواري "طقها والحقها"، هل تعلم أنهم يتداولون نصوصاً عن "التوكل على الله" و "الايمان بالقضاء والقدر" لتعزيز سلوكياتهم الفوضوية هذه! هذا هو السبب ياعزيزي .. إنها الصحوة تلك الوكيل المعتمد لتربية الفوضى، ففي الوقت الذي تحول فيه التخطيط والتنظيم إلى علم مستقل يدرس في الأكاديميات الغربية لازال الصحويون عندنا يرددون مفاهيم التوكل والاحتساب والقضاء والقدر!!
اندفاعة صاحبي أرسطو وهو يقرر هذه الحقيقة القطعية .. دفعت الجميع –فيما يبدو- الى اللياذ بالصمت وعدم التعليق ..
وتغير مجرى الحوار قليلاً نحو قضية الانتخابات البلدية .. فأبدى أحد الحضور دهشته من انتصار الإسلاميين الساحق في المقاعد البلدية، فقال أرسطو: السبب ياعزيزي هو أن مايسمى شباب الصحوة الاسلامية الذين تراهم مصطفين أرتالاً في دروس المشايخ، ويلقون الكلمات بعد الصلوات، ويشرفون على برامج تحفيظ القرآن الكريم، ويكتظون في رمضان وراء الأئمة المشهورين في صلاة التراويح، وينقسمون إلى فرق عمل توزع المطويات أمام صفوف المصلين وتعلقها في الجدران الخلفية للمساجد، الخ الخ
هؤلاء ياعزيزي ليسوا كما تتصور مجرد استجابة اجتماعية مباشرة للنصائح والمواعظ العابرة، هذه أسطورة يحاول أن يقنعنا بها الصحويون، لكن هيهات هيهات، ذهب الوقت الذي ينفردون فيه بمنابر التعبير، خلاص خلاص انتهى وقت التعتيم، الجميع اكتشف أن هذه الجموع الشبابية جزء من نسيح حركي منظم بدقة، وشبكات مترابطة تدير وتنفذ أجندات مرتبة مسبقاً، ومافوزهم في الانتخابات البلدية إلا أحد الوجوه والمظاهر البسيطة لثقافة التنظيم والتنسيق التي تقوم عليها التعاليم الصحوية!
بل انظروا في كافة مؤسساتهم الدينية كالمراكز الصيفية، وحلقات التحفيظ، وتوعية الجاليات، والمبرات الخيرية، وجمعيات فائض الأطعمة، وحملات الحج، والمجلات الاسلامية، وكتائب المحتسبين، وستكتشف عشقهم وهيامهم بقضايا الهرمية الإدارية والجداول السنوية ورسم الأهداف والملفات الورقية والإلكترونية ونحوها. هذه الصحوة ياعزيزي تتنفس التنظيم في كل دقيقة.
سأل أحد الحضور –ولست أدري هل كان سؤاله ساذج أم يستسذج- فقال: على فكرة من هو الشخص الذي طرح قبل قليل أن الصحوة تتبني فكر الفوضى الدينية؟ فربما كان هناك حوار جيد بينكما؟
طبعاً الجميع شعر بالموقف المخجل .. فالجميع يعرف أن من طرح أن الصحوة (فوضوية) وأن الصحوة (منظمة) هو صاحبي أرسطو نفسه!
ومرة أخرى يقع في مطب التناقض العقلي .. أكثر شخص في حياتي رأيته مولعاً بمفهوم العقلانية!
وأتذكر مرة أنني وإياه كنا في مانشستر في مقهى مشهور يرتاده العرب في هذه المنطقة كثيراً، ولما جاء النادل أخذ طلبنا ومضى بأقل قدر ممكن من الكلمات، قال لي أرسطو: أرأيت ياصديقي خليل عظمة الحضارة الغربية، انظر كيف لم يزعجنا هذا النادل بأحاديثه ولم يثقلنا بالتلطف التسويقي المبالغ فيه ليمنحنا طقسنا الخاص في المقهى! هاهنا صرخت ولم أحتمل .. قلت له: أرسطو .. كفى أرجوك .. قبل أسبوعين كنت تنتقد نادل مطعم "الريف اللبناني" بالرياض حين أخذ الطلب وانصرف، وكنت تقول لي بالحرف الواحد: انظر إلى تخلفه، ففي الدول المتقدمه
¥