تجد النادل يتبسم ويتلطف ويقول لك كلمات ترحيبية بروتوكولية معروفة!
حتى نادلي المطاعم يا أرسطو لم يسلموا من تناقضاتك العقلانية .. إن تكلموا وسكتنا قلت: محادثة الزبائن يشعرهم بالألفة، وإن سكتنا وتكلموا قلت: عدم إثقال الزبائن بعباراتك يمنحهم طقسهم الخاص!
ومرةً قال لي صاحبي أرسطو وهو يتأمل: جوهر مشكلة الصحوة الدينية أنها "حركة سكونية".
فقلت له: وماذا تعني بذلك؟
قال لي: أعني أنها تكرس الواقع القائم، وتسعى للمحافظة على ثبات الأوضاع، وترفض التغيير والحراك.
ثم مكثنا دقائق ونقلت له عبارة جميلة قرأتها في ظلال القرآن لسيد قطب في تفسير آية [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا] في مطلع سورة فاطر، فهذا الموضع في ظلال القرآن أظن أنه أرقى لحظة إيمانية وصل إليها سيد رحمه الله في تفسيره الظلال، فقد ذكر في هذا الموضع من تأملاته الروحانية العذبة مالاتقاومه الجبال الرواسي.
المهم أنني حين قرأت على صديقي أرسطو هذا الاقتباس، قال لي وهو يهز رأسه كمحقق يلتقط آخر خيوط الجريمة:
آآآآه .. سيد قطب .. وما أدراك ماسيد قطب .. سيد قطب هذا هو ينبوع البلاء ياصديقي خليل ..
قلت له: لم أفهم ماذا تقصد؟
فقال: سيد قطب هذا هو المهندس الرئيسي لمفهوم "جاهلية المجتمع المعاصر"، ولذلك يدعو في الظلال ومعالم في الطريق إلى (الانقلاب الشامل) للتصورات والمفاهيم، ويحاول دوماً أن يفسر قصص الأنبياء على أنها انقلاب شامل على فكر مجتمعهم بما فيه من قيم وموازين ومفاهيم وتصورات وأخلاق وسلوكيات.
والحقيقة أن هذه الأفكار ليست جديدة أيضاً فمدرسة أهل السنة كانت تتبنى مفهوم "الغربة والغرباء" وكانت ترى أهل السنة غرباء في هذا الواقع المتلاطم بالمحدثات والمعاصي، ويقدمون صورة سوداوية وقاتمة عن المجتمع.
وهذه في الحقيقة أفكار خطيرة جداً جداً ياصديقي خليل، لأنها تغذي في الشاب نزعة النقمة والسخط ضد الواقع ورفضه وتحديه ومجابهته بدلاً من دعمه وتعزيزه.
قلت له عزيزي أرسطو .. ثمة سؤال صغير!
قال لي: كعادتك ستقول: أن هناك تناقضاً عقلياًَ في كلامي .. وأين العقلانية التي تدعوا إليها؟!
قلت له: اعذرني ياأرسطو .. فعلاً هذا هو الذي حدث .. فأنت قبل قليل كنت تقول أن الصحوة حركة سكونية تدعو للمحافظة على الوضع القائم، والآن تقول لي أن الصحوة حركة انقلابية ناقمة تغذي السخط ضد الأوضاع الاجتماعية؟!
فهل الصحوة سكونية أم ثورية؟! أرجوك يا أرسطو .. أرجوك قليلاً فقط من العقل!
وكنت مرةً أتجول مع صديقي أرسطو بالسيارة على طريق الدائري الشمالي بالرياض، ودلفنا منه إلى طريق الملك فهد، وكنا نتحدث عن أحد فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم -عليه رضوان الله- المتعلقة بتحكيم القوانين الوضعية، فقال لي صديقي أرسطو: مشكلة المنهج السلفي أنه منهج نصوصي للأسف!
قلت له: وماذا تعني بالضبط، فالنصوص عموماً تحظى باحترام واسع في العلوم كلها، كالقانون والأدب وغيرها؟
قال لي: أقصد أن الفهم السلفي للنصوص فهم حرفي محدود ومفقر، يدور في قوالب اللفظ النصوصي ذاته، وغير قادر على الإضافة واستثمار إشارات النص وفحواه ودلالاته الكلية لإنتاج خطاب غزير يغري القارئ بالدخول في معمعته، ولذلك يمكن القول أن هناك "شح في المضامين" في الخطاب السلفي تحتاج إلى مشروعات ارتوازية لإغاثتها!
وبينما نحن نتجول مررنا في طريقنا بمكتبة الرشد .. فاقترح الصديق أن نلقي نظرة على جديد المطبوعات التراثية، فلما نزلنا على المكتبة ومسحنا أغلب الستاندرات .. قال لي أرسطو: يا ألله .. مشكلة الفكر السلفي أنه يعاني من ظاهرة "تمدد المعنى"، أعني أنك لو تطالع النص الشرعي لرأيت القرآن كتاب واحد فقط، وأحاديث النبي المتفق على صحتها ربما لاتتجاوز ثلاثة أو أربعة مجلدات فقط، ومع ذلك إذا نظرت إلى كتب التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والمصطلح والعقيدة والفتاوى وجدتها تصل إلى الآلاف من الكتب!
فكل جيل من علماء الدين يضيف إلى المعاني الدينية استنباطاته الخاصة حتى تحول الدين إلى قاعدة بيانات يستحيل على المتخصص ذاته، فضلاً عن المسلم العادي؛ الإحاطة بها، فبالله عليك من هو المسؤول عن هذا التمدد في المعنى، والتوسع في التأليف، وإدخال ملايين الاستنباطات في الكتب الدينية؟!
¥