[نحو استثمار أفضل لفائض الوقت]
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[20 - 08 - 09, 11:55 ص]ـ
[نحو استثمار أفضل لفائض الوقت]
د. مصطفى السيد
يسعى المسلم يومياً مع الملايين من إخوانه في مناكب الأرض إعماراً لها، وإعمالاً لمواهبه، إنتاجاً وإبداعاً، وبعضهم يضرب في طلب الرزق أجواء الفضاء، وآخرون يركبون متون البحار والأنهار يعملون وكلهم يشتهون غداً أفضل، ومستقبلاً أجمل لأمتهم وأوطانهم.
والأمة التي تجعل العمل من مقومات وجودها، وهدفاً أساساً لها في الحياة لن تحصد ـ بفضل الله ثم بعملها ـ إلا مجداً باهراً، وازدهاراً ساطعاً، وحُق لأمة تكون كذلك أن تكون لها سويعات ترفيه، وأوقات راحة تخلد فيها إلى الهدوء، أو تركن إلى صحبة تتعاطى معها نشاطاً ذهنياً أو رياضياً يتجدد من خلالها نشاطها، وتتنمى عبرها مواهب قد لا يتمكن العاملون من إشباعها أوقات الدوام.
هكذا تكون الحياة السوية سمواً عبر العطاء، ومثاقفة بناءة في ساعات الترويح والاسترخاء.
تعالوا أيها الأحبة نسائل أنفسنا: أين نحن من ذلك في حياتنا بشطريها: العامل، والمستريح؟
لا أنكر ابتداءاً أنه يوجد بيننا من حولوا ساعات العمل بفضل الله ثم بفضل ما طبعوا عليه من تربية؛ حولوها إلى زيادة في رصيد حسناتهم، وإلى نتاجات فكرية أو مادية استفاد منها البلاد والعباد.
كما يوجد من بيننا من حوّل ساعات الترفيه والاسترخاء إلى وجه آخر من وجوه الحضور للمسلم المنتمي إلى عصره ومجتمعه انتماء مشاركة، وتعاون على البر والتقوى، وتفكر وتدبر في كل دقيقة، وكيف تملأ بما يكفل عائداً مجزياً ومردوداً مريحاً؛ وذلك عندما يوفق في قضاء ساعات راحته مع فئة من الناس تتبسط بغير استهتار، وتتحادث بغير إسفاف، لا تخلع العذار في مزاحها، ولا تسقط الحياء في لهوها، تتهادى الكلمة الطيبة، وتتبادل الأفكار التي تفتح للأمل أبواباً، وتوصد من اليأس مثلها، يحضرهم سمر النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي كان سمراً في مصالح المسلمين، وقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: "إنه لم يعد له من أرب في العيش لولا محادثة أهل الفضل والمروءة".
إن مثل هذه النماذج المباركة جعلت من لقاءات الترفيه والسمر مدارس تبث الكلمة النافعة، وتضخ الخبرة الناضجة لجُلاّسها؛ لأنها:
- لم تفهم الترفيه تحرراً من المسؤولية، وتحللاً من الفضيلة مرددة مقولة جاهلية ومأثورة شيطانية: "ساعة لك وساعة لربك"، أو: "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى رفقة سوءٍ رأت في الحياة عبءاً، والعمر هماً جاثماً على الصدر، فتفننت في التخلص منهما، والتحلل من مستلزماتهما.
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى العكوف بين يدي متحدث عليم اللسان، فارغ الجنان، اختزل الحياة بساقط النكات والقهقهة العابثة التي رأت في سخف القول والعمل سقفاً للعيش، ومضماراً للهو والطيش.
- لم تفهم الترفيه هروباً من الأسرة وحقها في أوقات تأخذ من الأب تجربته، كما يلقي الأب السمع إلى أفكار ورؤى أبنائه وبناته، لا يتركهم تحتبس الكلمات في صدورهم، والأسئلة في عقولهم، يغيب عنهم وعن زوجته ليحل محله يأس طاغ، أو رفيق سوء باغ، أو جلوس إلى قنوات فضائية تتسمر أعينهم في صورها، يلتهمون سمها الزعاف وفكرها القاتل.
- لم تفهم الترفيه استقالة من معالي الأمور، وانتحاراً بطيئاً غير مباشر من تبعات الحياة، حتى صار هؤلاء القوم يقدمون الاستراحة على البيت، وروادها على الأسرة، والحياة الهاربة من كل التزام جاد على الحضور الذي تتحقق به ومعه أهداف الحياة، حتى إن بعضهم ليحسب أنما خلق عبثاً للعيش بلا دور سوى حضور باهت على هامش الحياة معطلاً فيه عقله، معلقاً رجولته بخيوط العجز واللامبالاة، مؤكداً حضوره بتثاؤب مكدود، عيناه باتتا موانئ للذباب، وروحه ملاعب لجيوش اليأس والإحباط.
- لم تفهم الترفيه سخرية لاذعة من الإصلاح والمصلحين، والجد والجادين، بل رأت في الترفيه والسمر فرصاً لرفعه إلى مستويات الجد من خلال دعاء لحاكم ومحكوم بالتوفيق والنجاح، أو من خلال جمع بعض المال تفك به أزمة مأزوم، أو بالتداول في طرائق النصح لمنحرف ضل الطريق، وهكذا كانت أوقات الترفيه استمراراً لأوقات الجد واستكمالاً لساعات العمل.