ولكن الله تعالى وصف هذه الأمة بخاصية تختلف عما قبلها من الأمم ألا وهي خاصية وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد قال تعالى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (آل عمران:110)
ولهذا فعن أبي هريرة رضي الله عنه
: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال:" خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام " (صحيح البخاري: 4281)
وإن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية لما دل على ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (مسلم:186)
وإن من النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله مثل شرائع الإسلام وهي الصلوات الخمس في مواقيتها وكذلك الصدقات المشروعة والصوم المشروع وحج البيت الحرام ومثل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره ومثل الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ومثل ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة آ ومثل إخلاص الدين لله والتوكل على الله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه والصبر لحكم الله والتسليم لأمر الله ومثل صدق الحديث والوفاء بالعهود وأداء الأمانات إلى أهلها وبر الوالدين وصلة الأرحام والتعاون على البر والتقوى والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك والعدل في المقال والفعال ثم الندب إلى مكارم الأخلاق مثل أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك ومن الأمر بالمعروف كذلك الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة وغير ذلك.
وإن أعظم منكر وقع فيه الأمم هو الشرك بالله قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" (النساء:48)
وقال:" إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ" (المائدة:72)
وأن الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد أن تكون المصلحة فيه غالبة على المفسدة – كما هو في القاعدة الشرعية- (درئ المفاسد أولى من جلب المصالح)
وعلى هذا فقد كتب البخاري –رحمه الله- باب الرفق في الأمر كله.مستنداً إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها حديثه:" مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" (البخاري: 5678،مسلم: 5784)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر ... " (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابن تيمية، ص17).
إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذه قاعدة متينة من قواعد هذا الدين العظيم، ولو كان الأمر بالإنكار لكل الناس باليد لحصل من الشر والبلاء والتطاحن بين الخلق ما لا يحصى شره إلا الله وحده ... ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه .. الحديث {
فهذا توجيه نبوي بإنكار المنكرات ولكن كلٌ على حسبه كما يلي:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد وهو مشروط بالقدرة، وعدم ترتب مفسدة أكبر من جرّائه، وليس لكل أحد الإنكار باليد، فإذا رأيت أنك لا تتمكن من تغييره بيدك إما لعدم قدرتك على ذلك، أو خشي ترتب مفسدة أكبر من المصلحة المرجوة، فإنك تنتقل بعد ذلك إلى:
المرتبة الثانية: وهو الإنكار باللسان وإنما تنتقل إلى هذه المرتبة إذا عجزت عن التي قبلها، وهذه المرتبة أيسر ولا شك، والذي ينبغي في هذه المرتبة هو التغيير بحسب قول الله تعالى: {ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ} [النحل:125] فإذا عجزت عن الإنكار باللسان فإنك تنتقل إلى:
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب وهي أدناها ولا شك، ولا رخصة لأحد في تركه أبداً، وضابطه هو الإيمان بأن هذا منك، وكراهته والاستمرار في كرهه وبغضه، فإذا لم يكن الإنكار بالقلب فهذا دليل على عدم الإيمان، ودليل على موت القلب والعياذ بالله؛ لأن الإنكار بالقلب هو آخر حدود الإيمان.
وصلى الله وسلم على آله وصحبه أجمعين
¥