ـ[أبو محمد الظاهرى]ــــــــ[05 Jan 2007, 05:54 م]ـ
أحسن من تكلم في أمر أبي حنيفة وأهل الرأي وكان كلامه وسطياً بلا إفراط ولا تفريط هو الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال في كتابه العجاب (الرسالة الباهرة):
وقد كان في القرن الثاني والثالث فسّاق ومتأخرون في الفضل عمن بعدهم بلا شك، وإنما الفضل فيمها على الأغلب، لا إلى إنسان بعينه منهم البتة، ولا جاء أيضاً نص عن الله تعالى، ولا عن رسوله ص بالأمر لنا بتعظيم بعضهم أكثر من تعظيم الآخرين، بل هم علماء من جملة العلماء غيرهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فسقط سؤالهم بمن أفضل ومن أجل.
وأما الورع: فهو اجتناب الشبهات، ولقد كان أبو حنيفة وأحمد وداود من هذه المنزلة في الغاية القصوى، وأما مالك والشافعي فكانا يأخذان من الأمراء، وورث عنهما واستعملاه وأثريا منه، وهما في ذلك أصوب ممن ترك الأخذ منهم، وما يقدح هذا عندنا في ورعهما أصلاً، ولقد كانوا رحمهم الله في غاية الورع.
وأما القطع بانهم أورع عند الله عز وجل فغيب لا يستجيز القطع به إلا فاسق، وأورعهم في ظاهر أمرهم في الفتيا من كان أشدهم لمخالفة ما جاء في القرآن وما صح عن النبي ص، وأبعدهم عن القطع برأيه، وهذا أمر يعلمه كل ذي حس سليم ضرورة من جاهل أو عالم، إلا من غالط عقله وكابر حسه.
وأما أيهم أعلم: فإن معنى العلم أن يكون عند المرء من رواية ذلك العلم وذكره لما عنده منه، وثباته في أصول ذلك العلم الذي يختص به أكثر مما عند غيره من أهل ذلك العلم، والذي كان عند أبي حنيفة من السنن فهو معروف محدود وهو قليل جداً، وإنما أكثر معوّله على قياسه ورأيه واستحسانه، كما روي عنه أنه قال: علمنا هذا رأي، فمن أتى بخير منه أخذناه.
وأما الذي عند مالك فهو كله في موطئه، قد جمعه وشيء يسير قد جمعه الرواة عنه مما ليس في الموطأ، وذلك جزء صغير، قد حُصِّل كل ذلك وضبط، ولا يسع أحداً أن يظن به أنه كان عنده علم فكتمه، وأحاديث صحاح فجحدها، نعوذ بالله من ذلك، فقد قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فبنذوه وراء ظهورهم} آل عمران 187، وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} البقرة آية 1590160.))
ويقول ((وأما الفتيا بالرأي فليس علماً ولا فضيلة، ولا يعجز عنه أحد، بل هو مذموم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعون بعدهم، وهم يُقرّون على أنفسهم بذلك:
فهذا ربيعة يقول للزهري: أنا أخبر الناس برأيي، فإن شاؤوا أخذوه، وإن شاؤوا ضربوا به الحائط.
قال أبو محمد رحمه الله: ولعمري إن شيئاً يكون سامعه بالخيار في أن يضرب به الحائط، فحق أن يتعجل ضرب الحائط به، وأن لا يفتي به في الدين، ولا يخبر به عن الله عز وجل.
فهذا مالك يقول عند موته: وددت أني ضُربت لكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط ().
قال أبو محمد رحمه الله (): ولعمري إن ما ندم عليه صاحبه هذه الندامة عند الموت، فإن القاطع به في دماء المسلمين وفروجهم وأموالهم وأبشارهم ودينهم لمخذول.
وهذا ابن القاسم يقول: لا تُباع كتب الرأي؛ لأننا لا ندري أحق هي أم باطل.
قال أبو محمد رحمه الله: ولعمري إن ما لم يقطع على جواز بيع كتبه ولم يدر أحق هي أم باطل لبعيد عن أن تجوز الفتيا به في الإسلام، أو أن يخبر به عن الله تعالى.
وهذا سحنون يقول: ما ندري ما هذا الرأي، سفكت به الدماء واستحلت به الفروج.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان لا يدري ما هو فالذي أخذه عنه أبعد من أن يدريه لو نصحوا أنفسهم.
هذه أحكام ظاهرة الصدق لا ينكرها إلا ذو حمية يأنف أن يهتضم دنياه وتبطل اشرعته،: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء آية 227.
وأما الشافعي فإنه لا يجيز الرأي أصلاً، وهذا أحمد وإسحق بن راهويه وسائر المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الحديث، وأما داود فأمره في إبطاله أشهر من أن يتكلف ذكره.
¥