أخَذنا بأطْراف الأحاديث بينَنا=وسالت بأعناق المُطيّ الأباطحُ
قد كان موقفه التحليلى التأويلى التعليلى لهذه الأبيات مناط استحسان ممن جاء بعده، لما بدا منه ولم
يكن من غيره خلا "أبى=الفتح عثمان بن جنى"
بملكك أن تقول مع الأمام "عبد القاهر" فى هذه الصورة الشعرية وقد أجاد وأحسن إحسانا ولكنه ليس الذى لم يترك لك ما يمكن أن تقوله بل كم ترك الإمام لنا أن نقول، وقد أغرانا بأن نقول وحضنا على أن نسافر فى مجاهل تلك الصورة الفنية.
وعبد القاهر فى كتابيه "الدلائل " و "الأسرار" كثيرة جليلة مواقفُه التحليليةُ التأويليةُ التعليليةُ لآيات الحسن والإحسان. ولا سيما فى الكلمة الشاعرة. ومن شاء أن يتعلم منها منهاج القراءة التحليلية ومسالك التأويل البيانى ومسارب التعليل الموضوعى المستمد من ذات البيان، فإنه الواجد ما يتقاطر عليه نداه أولا، فإن أحسن التلقى وأستشرف الأفق الأعلى وسعى تهاطلت عليه الفيوض السخية.
وطالب علم بيان العربية فى الكتاب والسنة، وفى الكلمة الشاعرة تكون عنايته باستبصار مناهج العلماء فى القراءة تحليلا وتأويلا وتعليلا وكيفيتهم فى هذا لا تقل عن عنايته بما قالوا، فيعقله ويفقهه إن لم تكن عنايته باستبصار المناهج أعلى.
ومن ثم فإن الإحسان إلى طلبة العلم أن يكون فريضة عليهم السعى إلى استبصار مناهج العلماء فى التفكير واستخراج المعرفة وتحقيقها وتحريرها.
وإذا كانت هذه الأسطر أخطها فى باب منهج فقه شعر العربية فإنى موقن أن منهج القراءة العربية للشعر العربى لسانا وعقلا وقلبا وهما إنما هو على لا حب الطريق وجادة السبيل القويم إلى فقه بيان الوحى كتابا وسنة، ذلك الفقه الذى لن يصلح عملنا: قولا وفعلا إلا بحسن تحقيقه وتحريره.
فحسن فقه بيان العربية شعرا ونثرا هو من علوم الدين وليس من علوم الدنيا التى لا يضر فى الآخرة جهلها،
أداة فقه الشعر
والحديث المفصل فى آلات وأدوات فقه الشعر جد وسيع غير أنك بملكك أن تجمله فى اثنتين: الطبع والمعرفة المهم أن أدوات فقه الشعر وآلاته جماعها الذوق والمعرفة وهذه المعرفة ضربان: معرفة مكتسبة من خارج المرء "معرفة نظرية" ومعرفة مكتسبة من فعله هى "معرفة الممارسة"
ومن ثم يمكن أن أقول إن أدوات فقه الشعر ثلاثة على التفصيل الذوق (الطبع/ الطبيعة) ثم المعرفة (أو الدراية) ثم الدربة (أو الممارسة والخبرة)
"ابن سلام الجمحى" اصطفى كلمة (صناعة) فجمع الآلات الثلاث: الطبع والمعرفة والدربة
فـ: (الذوق) منحة و (الممارسة) اجتهاد ذاتى.
و"الذوق" الذى هو (حصول ملكة البلاغة للسان) التى هى مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب فى إفادة ذلك إنما تكون من مخالطة كلام العرب والاستماع إليه وممارسته وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، ....
لكن الذوق (الطبع / الطبيعة) ابتداء هبة لا يكتسب أصل وجودها، وهى كطبع إبداع الشعر لا يتأتى لك أن تمنح إنسانا ما عري عنه اقتدارا على أن يقول ما ينمى إلى الشعر، وإن كانت بملكك بالمدارسة وكثرة التعهد أن ينظم قولا موزونا معقودا بقواف غير انه عن الشعر الذى هو علم العرب وديوان مجدهم إنما هو جد زنيم.
هذا الذوق فى طوره الأول الموهوب الذى فطر صاحبه عليه ليس بملكه أن يعيش فضلا عن أن يثمر وحيدا غير ممزوج بأشياء أخر.
حياته وأثماره من أمرين المدارسة والممارسة
"ضياء الدين بن الأثير" (ت 637 هـ) يذهب إلى أن من ركب الله عز وجل فيه طبعاً قابلاً لإبداع البيان ولا سيما الشعر فانه يفتقر مع هذا الطبع والذوق إلى ثمانية أنواع من الآلات التى هى علوم ومعارف، والحق أن هذه الآلات (المعارف والعلوم) أقرب إلى الثمانين وليس الثمانية التى ذكرها ابن الأثير (10)
غلب على ما ذكره علوم اللسان، وثم علوم لا يقل افتقار الشاعر إليها عن افتقاره إلى تلك العلوم التى ذكرها. فاتساع معارف الشاعر المطبوع يعلى من قدره ويجعله سالكا مسالك غير مألوفة فى الإبداع فيدهش.
واقتصار المتفقه المتذوق على معارف اللسان ومذاهب الشعراء فى البيان والاعراض عما تتداول العقول من المعارف الإنسانية على اختلاف الإعصار والأمصار ولا سيما عصر الشعر المتذوق ومصره، إنما هو آفة كثير ممن قام لفقه الشعر وتذوقه.
فإن الأمر كمثله فى متذوق الشعر لا يكفى طبعه وذوقه فلابد من اتساع المعرفة وتنوعها
وإذا ما كان الطبع (الذوق) الممزوج به المعرفة والمدارسة لهما تلك المنزلة فى فقه الشعر وتذوقه فإن الممارسة والرياضة والدربة والمران فى قراءة الشعر وتذوقه وتحليله ليعلى شأنهما
... فابو تمام والفرزدق ممارسة قراءة شعرهما تحليلا وتأويلا هى التى تمنح صاحبها الاقتدار على استبصار طاقات العربية البيانية، على الرغم من ان جريرا و البحترى شعرهما امتع وارق واقوى على ادخال البهجة ونشر الاريحية.
وتخليص القول فى هذا أن أداة فقه الشعر وقراءته تحليلا وتأويلا وتعليلا انما هو ذوق مازجته مدارسة وممارسة. وأن الذوق وحده وإن كان جليلا عاجز عن أن يعيش فضلا أن يقتدر على النفاذ فى مسارب المعنى الشعرى فى القصيدة مثلما المعرفة والمدارسة والممارسة والدربة وحدهما بغير ذوق لا يكون منهما إلا غثاء.
منقول
للموضوع بقية إن شاء الله
¥