تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والحال كذلك في "باب المحاسن"؛ فهو يذكر فصولاً في تحسين الكذب، والوقاحة، والذنوب، والمرض، والموت، والجبن، وسواد اللون، والسجن .. ولو ذهبنا لكلامه؛ لوجدناه لا يحسِّن الكذب ذاتَه، وإنما يحسن المواضع الثلاثة التي أجازت الشريعة فيها الكذب، وهي الحرب، والصلح، وملاطفة الزوجة، ولا يعني بتحسين الوقاحة إلا المعنى المقابل للخجل والحياء الزائد، كما أنه لا يشيد إلا بآثار الذنوب،من الندم والتوبة والانكسار لله -عز وجل- ولا يحسن الذنوب نفسها ..

إلا أنه -رحمه الله- قد يُغْرِب في البابين جميعاً -أعني: باب ذكر المحاسن، وباب ذكر المقابح- ويأتي بالمعاني التي تدور في خواطر الناس، فيحومون حولها، ويرفرفون عليها، ولا يتوصلون إليها، فيجيء هو فيفصح عنها، ويوشِّحها بنكت الشعراء وألفاظ الحكماء، فما تظنه سيقول في تحسين الملل؟! أو تحسين الحقد؟! بل والأغرب من ذلك ما ذكره في تقبيح المطر، وتقبيح القمر!! إنك -أيها القارئ الكريم- لفي طرب مرة، وفي عجب مرات، من اختيار هذا الأديب اللغوي الشاعر! وحُقَّ لك ذلك؛ فاختيارُ المرء قطعةٌ من عقله تدل على تخلقه وفضله.

وها أنذا أقتطف لك -أيها القارئ الكريم- طائفة يسيرة من زهور بستانه، تُغريك بالكتاب، ولا تُغنيك عنه، وما تركت أظرف مما ذكرت.

يقول -رحمه الله- في باب ذكر المحاسن:

تحسين الدَّيْن:

دخل عمرو بن عتبة يوماً على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: إن ها هنا رجالاً إذا خفت أموالهم؛ عوّلوا على الدَّين، وأخذوا في الاستدانة! فقال عتبة: إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم؛ فلا يدانون، ورجالاً لا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم؛ فيدانون، على سعة ما عند الله.

ويقول في تحسين العمى:

قيل لقتادة: ما بال العميان أذكى وأكيَس من البُصَراء؟

فقال: لأن أبصارهم تحولت إلى قلوبهم.

وقال الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، وأذهانهم أقوى وأصفى؛ لأنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الأشخاص، ومع النظر يتشعب الفكر، ومع انطباق العين اجتماع اللب، ولذلك قال بشار: عميت جنيناً، والذكاء من العمى.

وكان أبو يعقوب الخُزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه: سقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء.

ويقول في تحسين الحقد:

لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبَّحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود!!

فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي؛ فإني كذلك!

ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر!

فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه؛ غيره!

ويقول في تحسين أمر الغَوغاء:

في الخبر أن الله -تعالى- ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم!

وكان الأحنف يقول: أكرموا الغوغاء والسفهاء؛ فإنهم يكفونكم العار والنار!

وقال جعفر بن محمد رحمه الله: إنهم ليطفئون الحريق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البُثُوق!

ويقول في تحسين الملل:

جرى يوماً في مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وبين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً? ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول؛ اختُص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه، وحُرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه؟!!

وإذا كان ملولاً، ولا يصبر على نفر بأعيانهم؛ استجد الإخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه؟!!

فقالوا له: والله، إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسِّن ما تطابقت الألسن على تقبيحه!

ويقول في تحسين الفراق:

قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأَوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة!

وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيراً! فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل وتوقع .. وقبح الله التلاقي! فإنما هو مَسرة لحظة، ومساءة أيام، وابتهاج ساعة، واكتئاب زمان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير