وكتب أحمد بن سعد: إني لأكره الاجتماع؛ محاذرة الفراق، وقصر السرور. ومع الفراق غُمةٌ يخفيها توقُّعُ إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرُّجْعى.
ويقول في تحسين أمر البنات:
دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية، وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين?
فقال: هذه تفاحة القلب!
فقال: انبذها عنك!
قال: ولم?
قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعَداء، ويُوَرِّثن الضغائن!
قال: لا تقل ذلك يا أبا عبد الله، فوالله ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى [2]، ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالاً قد نفعه بنو أخته.
فقال: يا أمير المؤمنين قد حبَّبتَهن إليّ.
وكتب أحدهم في التهنئة بابنة: ... فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، ... والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البَرِية، وفيها كثرت الذُّرِّية، والسماء مؤنثة، وقد زُيِّنت بالكواكب، وحُليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها يتنعم المرسلون.
ويقول -رحمه الله- في باب ذكر المقابح:
تقبيح الخط والقلم:
نظر المأمون يوماً في خط أحمد بن يوسف، وهو يكتب بين يديه، فقال وهو يتنفس الصعداء: يا أحمد، أود لو أن خطك لي بنصف ملكي!
فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن في الخط فضيلة؛ لما حرمه الله أعز خلقه، وأجل رسله، محمداً، صلى الله عليه وسلم!
فقال: قد سَلَّيتني مما كنت أجد يا أحمد!
ويقول في تقبيح الأصدقاء والإخوان:
كان عمرو بن العاص يقول: من كَثُر إخوانه؛ كثر غرماؤه!
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احرُسني من أصدقائي! فإذا قيل له في ذلك؛ قال: إني أقدر على الاحتراس من أعدائي، ولا أقدر على الاحتراس من أصدقائي! [3]
وقال ابن الرومي:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فَإنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
ويقول في تقبيح الولد:
قال أكثم بن صيفي: من سره بنوه ساءته نفسه.
وقال يحيى بن خالد: ما أحد رأى في ولده ما يحب؛ إلا رأى في نفسه ما يكره.
وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يطرب لقول أبي الفتح البستي الكاتب:
يَقُولُونَ: ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَا بِنَسْلِهِ وَمَا أَنْ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ
فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي فَإِنْ فَاتَنَا نَسْلٌ؛ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو
ويقول في تقبيح المطر:
كان يقال: المطر مفسد الميعاد. والغَيث لا يخلو من العَيث [4].
وفي كتاب المبهج: قد عاقت الأمطار عن الأوطار، وحالت دون الوصال.
وقال أبو نُوَاس:
هُوَ الْغَيْثُ! إِلاَّ أَنَّهُ بِاتِّصَالِهِ أَذًى، لَيْسَ قَوْلُ اللهِ فِيهِ بِبَاطِلِ
لَئِنْ كَانَ أَحْيَا كُلَّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَقَدْ حَبَسَ الأَحْبَابَ بَيْنَ المَنَازِلِ
ويقول في تقبيح القمر:
قال بعض ظرفاء الأدباء، ممن سكن دور الكِراء، وقد قيل له: انظر إلى القمر ما أحسنه!
فقال: والله، لا أنظر إليه لبغضي له!
قيل: لم؟!
قال: لأن فيه عيوباً؛ لو كانت في حمار لرُدَّ بالعيب!
قيل: وما هي؟
قال: ما يصدقه العِيان، وتشهد به الآثار! .. إنه يهدم العُمُر يُقرِّب الأجل، ويُحِلُّ الدَّين، ويُوجِب كِراء المنزل، ويقرض الكَتَّان، ويُشحِب الألوان، ويسخِّن الماء، ويفسِد اللحم، ويُعين السارق، ويفضح العاشق والطارق!!
المصدر: http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=188&ArticleID=1075
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على هذا؛ فالتحسين والتقبيح -في هذا الكتاب- يقوم على ما تعارف الناس على تحسينه أو تقبيحه؛ وليس على ما حسنه الشرع أو قبَّحه، ولذا قد نرى في هذا المقال -كما في الأصل- ما يتنافى مع الشريعة الغراء، ولا يقبله الذوق السليم ..
[2] هذه القصة، وإن كانت موجودة في (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وهو كتاب متداول لا يمكن أن يقارن بكتاب (المستطرف)، ولا بكتاب (ثمار القلوب)؛ فإنها لا تصح عن معاوية -رضي الله عنه- لأنها رويت بدون إسناد، ثم إنها تتعارض مع ما ثبت في السنة من تحريم النياحة، والله أعلم.
[3] لا يخفى ما في هذا الكلام من جور على الصداقة، فالصديق مَن صدقك! وإن كان المرء يخشى أن يؤتى من قبل أصحابه؛ فليقلل منهم، وخير له من ذلك أن يصبر على أذاهم، فقد ورد عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)). رواه أحمد.
[4] ليكن حالنا مع هذه النعمة -إن خشينا ضررها- كحال النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
(أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ!
فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ، فَاسْتَسْقَى، فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ مُطِرُوا، حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ، فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ!
ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ -أَوْ غَيْرُهُ- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَقَالَ: غَرِقْنَا! فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا!
فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا] مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِينًا وَشِمَالاًُ، يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا، وَلا يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ، يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ).
¥