تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم قال تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه، واختلفوا في قوله: {عَن يَدٍ} قال صاحب «الكشاف» قوله: {عَن يَدٍ} إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد {عَن يَدٍ} مؤاتية غير ممتنعة، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك يقال: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة من عنقه. وثانيهما: أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد، بل على يد المعطي إلى يد الآخذ. وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضاً وجهان: الأول: أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول: اليد في هذا لفلان. وثانيهما: أن يكون المراد عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة.

وأما قوله: {وَهُمْ صاغرون} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس. ويؤخذ بلحيته، فيقال له: أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه، فهذا معنى الصغار. وقيل: معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه.

المسألة الثانية: في شيء من أحكام هذه الآية.

الحكم الأول

استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله: {قاتلوهم} يقتضي إيجاب مقاتلتهم، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم، فلما قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه، فقد ارتفع ذلك المجموع، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع.

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

السؤال الأول: كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى. قوله: {تَكَادُ * السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 90 92] فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد، ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه.

والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.

السؤال الثاني: هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا؟

والجواب: أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته، ويشاهد الذل والصغار في الكفر، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام، فهذا هو المقصود من شرع الجزية.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله، شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأيضاً بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله. أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداً، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم، لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى، وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق، حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.

.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير