ولما ابتدأت هدميات هذه التوسعة ظهر للعيان جبل الصفا على حقيقته الجغرافية الطبيعية التي خلقه الله عليها يوم خلق السماوات والأرض، وأن امتداد طرفه الغربي الجنوبي المحاذي لسيل البطحاء من جنوبها كان يصل قبل إزالته في التوسعة إلى موضع الباب الشرقي للسلم الكهربائي الصاعد اليوم إلى الدور الثاني من المسجد الحرام من ناحية أجياد، وإلى موضع قصر الضيافة الملاصق للبيوت الملكية من الجهة الجنوبية، الذي موضعه الحالي جزء مرتفع من جبل الصفا.
فلا تعجب -والحال ما ذكرت لك- من تسمية كل هذه المنطقة من هذا الجبل باسم (جبل الصفا)؛ لأن أهل مكة في إبان أرومتهم العربية في الجاهلية والإسلام هم الذين سموه بهذا الاسم، وتبعهم في ذلك سكانها من بعدهم، إذ كان من عادة واضعي اللغة الذين يحتج بكلامهم في بيان المراد بمعاني الألفاظ في تفسير القرآن وغريب الحديث النبوي أن يسموا بعض أجزاء جبل ما، أو واد ما باسم خاص به يميز ما سموه منه عن اسم أصله لوصف قائم بذلك الجزء من الجبل، أو الوادي كما هو الحال في تسميتهم أصل جبل أبي قبيس من ناحيته الغربية والغربية الجنوبية وما بينهما من امتداد بالصفا الذي جعله الله عز وجل من شعائره في قوله:"إن الصفا والمروة من شعائر الله".
وقد ورد إطلاق اسم (جبل الصفا) على هذه المنطقة من هذا الجبل عند علماء العربية في مدوناتهم العلمية اللغوية فقال الأزهري في كتابه تهذيب اللغة:"الصفا والمروة وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد" (تهذيب اللغة 12/ 249)، وكذلك قال ابن منظور في لسان العرب (لسان العرب 14/ 469)، وقال ابن الأثير في النهاية:"الصفا أحد جبلي المسعى" (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 38)، وقال أبو حفص الحنبلي في تفسيره لهذه الآية:"الصفا والمروة هما في الآية الكريمة علمان لجبلين معروفين" (اللباب في علوم الكتاب 3/ 92)، وقال القرطبي:"أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضاً، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف" (الجامع لأحكام القرآن 2/ 179).
وقال عرّام في كتابه أسماء جبال تهامة وسكانها .. وهو يعدد جبال مكة قال:"ومن جبال مكة أبو قبيس ومنها: الصفا والمروة جبل إلى الحرة ما هو" (أسماء جبال مكة مطبوع ضمن نوادر المخطوطات 2/ 418 المجموعة الخامسة تحقيق عبد السلام هارون ط 2 عام 1394هـ).
وقال الأعشى هاجياً عمير بن عبد الله بن المنذر (ديوان الأعشى 214):
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
ومعلوم لكل أحد أن الشاعر يريد سكان جبل الصفا وما حوله مما هو موضع للسكن والاستقرار، ولا يريد الصفا الذي هو الحجر الأملس، لأنه ليس محلاً للسكن ولا صالحاً له، ولا هو مما يُمدح به هذا أولاً.
وثانياً: بدليل أن الشاعر قابل ذكر الصفا بذكر الحجون، فقابل جبلا ذكره بجبل متسع المواضع مريداً سكان كل من الجبلين، وهذا يدل على أن الصفا في هذه الآية الكريمة موضع متسع يمكن اليوم الاستفادة مما تشمله التسمية منه في توسيع عرض المسعى، إذ الشاعر عربي ممن يحتج بدلالة قوله في دلالة ألفاظ اللغة التي نزل القرآن مخاطباً العرب بها.
وذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لمكة يوم أن حج إليها في كتابه (المناسك) جبل الصفا وذكر أن امتداده أمام جبل أبي قبيس:"من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي .. وأن طرفاً من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا" (كتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي 479 تحقيق حمد الجاسر).
وتعرف جبل أبي قيس الذي يحتضن جبل الصفا من خلفه، والصفا أسفل منه من أول منعرجه من ناحية البطحاء (الساحة الشرقية للمسعى اليوم) إلى منعطفه إلى أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم) تغطيه الدور التي كانت تجثم على قاعدته، وعلوه وأسفله إلى موضع السعي من الصفا المعروف اليوم كما سبق أن ذكرت آنفاً قد أزيل من موقعه بقصد توسعة المسجد الحرام على مرحلتين:
أولاهما عام 1375هـ حين قُطعت أكتاف جبل الصفا، وفتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية التي لم تبق لها اليوم عين أيضاً.
¥