تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فَلا يُخَالِطُ إلاَّ على نُدُرٍ، ولا يُجَالِسُ إلاَّ على قَدَرٍ، فَكَانَ فِيْهِ مِنَ النَّاسِ نُفْرَةٌ، ولَهُ في المَاضِيْنَ عِبْرَةٌ، وفِيْهِ مِنَ الحَنَابِلَةِ نَزْعَةٌ، إذْ كَانُوا يَجِدُوْنَ في الخَلْوَةِ مُتْعَةً

* * *

ولَيْسَ ذَا بعَيْبٍ يُعِيْبُهُ، ولا رَيْبٍ يُرِيْبُهُ! لاسِيَّما والرَّجُلُ للنَّاسِ بكُتُبِهِ نَافِعٌ، ولنَفْسِهِ باللَّحْظِ جَامِعٌ، ولرَبِّهِ بالعِبَادَةِ طَائِعٌ! هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ شَرَّ الزَّمَانِ في ازْدِيَادٍ، وأهْلَهُ في رِيْبٍ وعِنَادٍ، والهَوَى غَالِبٌ غَلاَّبِ، والجَهْلُ جَالِبٌ جَلاَّبٌ، والسَّاعَةُ قَابَ قَوْسَيْنَ أو أدْنَى؟!

ومَا وَرَاءَ شَيْخِنَا إذَا اسْتَكَانَ طَبْعُهُ، ورَاضَ قَلْبُهُ، بحَدِيْثِ النَّبِيِّ ?: «أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وابْكِ على خَطِيْئَتِكَ» التَّرمِذِيُّ.

? ولله دَرُّ القَائِلِ:

تَوَارَيْتُ مِنْ دَهْرِي بظِلِّ جَنَاحِهِ فعَيْنِي تَرَى دَهْرِي ولَيْسَ يَرَاني

ولَوْ تَسْألُ الأيَّامُ مَا اسْمِي لمَا دَرَتْ وأيْنَ مَكَاني مَا عَرَفْنَ مَكَاني

* * *

? ومِنْ هُنَا (؟!) دَخَلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ووَلَجَ، ولَوْلا مَا هُنَا لكُمَلَ وخَرَجَ؛ حَيْثُ اعْتَرَاهُ بَعْضُ الأحَايِيْنِ، مَضَائِقُ أخْلاقٍ في لِيْنٍ، وجَفْوَةٌ للغَرِيْبِ يَكَادُهَا ولا يُبِيْنُ، لِذَا تَجَافَلَ عَنْهُ طُلابُهُ، وتَقَالَلَ أحْبَابُهُ، إلاَّ نَزْرٌ في إقْلالٍ، وقَطْرَةٍ في قِلالِ، لكِنَّهُ إذَا اسْتَكَانَ لزَائِرِهِ وقَاصِدِهِ، كَانَ وَدِيْعًا بَدِيْعًا لعَائِدِهِ، سَهْلاً مَلِيْحًا في مُحَادَثَتِهِ، طَيِّبًا كَرِيمًا في مُبَاحَثَتِهِ ... لَكِنَّ الكَمالَ عَزِيْزٌ، وشَيْخُنَا عَزِيْزٌ!

? ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله:

تَصَبَّرْ على مُرِّ الجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ فَإنَّ رُسُوْبَ العِلْمِ في نَفَرَاتِهِ

ومَنْ لم يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةًً تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُوْلَ حَيَاتِهِ

* * *

? فكَانَ رَحِمَهُ الله مُنْكَفًّا على نَفْسِهِ في قِرَاءَةٍ وتَألِيْفٍ، أغْلَقَ بَابَهُ على التَّدْقِيْقِ والتَّصْنِيْفِ، رَاضٍ بخَلَوَاتِهِ مُسْتَأنِسٌ، مَاضٍ في طَلَعَاتِهِ مُتَحَسِّسٌ، صَبُوْرٌ فَخُوْرٌ، فَلِمَاذَا حِيْنَئِذٍ التَّشَكِّي؟!

وقَدْ حَادَثْتُهُ مَرَّةً فَأبَى، ورَاجَعْتُهُ أخْرَى فَنَبَى، فبَايَنَنِي بالحَدِيْثِ وتَنَهَّدَ، وسَارَرَني بكَوَائِنِ الزَّمَانِ وعَدَّدَ، وحَذَّرَني مِنْ بَنَاتِ طَبَقٍ، ومِنْ زَبَدِ مَفَالِيْسِ اللَّفَقِ.

? ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الأحَيْمِرُ السَّعْدِيُّ:

عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى وصَوَّتَ إنْسَانٌ فَكِدْتُ أطَيْرُ

رَأى اللهُ أنِّي للأنِيْسِ لشَانِئٌ وتُبْغِضُهُم لي مُقْلَةٌ وضَمِيْرُ

* * *

وهَكَذَا لم يَزَلْ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يُدَافِعُ الأيَّامَ ويُزْجِيْهَا، ويُعَلِّلُ العُزْلَةَ ويُرَجِّيْهَا، فَامْتَطَى غَارِبَ الأمَلِ إلى الغُرْبَةِ، ورَكِبَ مُتُوْنَ التَّألِيْفِ مَعَ قِلَّةِ الصُّحْبَةِ، فَما زَالَ مَعَ الزَّمَانِ في تَفْنِيْدٍ وعِتَابٍ؛ حَتَّى رَضِيَ مِنَ الغَنِيْمَةِ بالإيَابِ، ومِنَ النَّاسِ بقِلَّةِ الأصْحَابِ، ممَّنْ ارْتَضَى خَلائِقَهُم، وأمِنَ بَوَائِقَهُم.

فَعِنْدَهَا تَسَلَّى بمُلازَمَةِ القَلَمِ والكِتَابِ، ومُطَالَعَةِ صَحَائِفِ أوْلي الألْبَابِ، مَا شَغَلَهُ عَنْ كَثْرَةِ المُخَالَطَةِ، وألهَاهُ عَنْ تَوَقِّي المُغَالَطَةِ، فَظَفَرَ مِنْهَا بضَالَّتِهِ المَنْشُوْدَةِ، وبُغْيَةِ نَفْسِهِ المَفْقُوْدَةِ، فجَعَلَ يَرْتَعُ بَيْنَ أزْهَارِ حَدَائِقِهَا، ويَسْتَمْتِعُ بحُسْنِ حَقَائِقِهَا.

وهَكَذَا اعْتَقَدَ مَقَامُهُ بذَلِكَ الجَنَابِ؛ حَتَّى تَوَارَى تَحْتَ التُّرابِ، فرَحِمَهُ الله الغَفُوْرُ التَّوَّابُ!

إذَا مَا الدَّهْرُ بيَّتَنِي بجَيْشٍ طَلِيْعَتُهُ اغْتِنَامٌ واكْتِئَابُ

شَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِي كَمِيْنًا أمِيْرَاهُ الذُّبَالَةُ والكِتَابُ

وبِتُّ أنُصُّ مِنْ شِيَمِ اللَّيَالي عَجَائِبَ في حَقَائِقِهَا ارْتِيَابُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير