تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قد يمثل كل الأمم الأخرى.

الثانية: أن الترويج للتسامح في تلك الفترة كان ناضجاً وواقعياً بما فيه الكفاية ليسمي الأشياء بأسمائها، دون أن ينجر إلى التعميم والمجاملة، فقانون التسامح البريطاني صنف المنشقين عن الكنيسة بتصنيفات قريبة من تصنيفات الكفر والإيمان وليست هذه دعوى من أي نوع لاستيحاء أي تصنيف كان، لكنه تذكير بأن المواجهة الحقيقية للمشاكل تتطلب هذا النوع من تسمية الأشياء الذي يوضح ضمناً حدود العلاقات وطبيعتها ..

وقد انتبه بعض المفكرين إلى أن هذا يشكل فرقاً أساسياً بين فكرة «التسامح»، وفكرة «الحرية الدينية» التي تطورت لاحقاً، فالتسامح يقدم من قبل الفئة الأكثر هيمنة، تجاه الفئات الأقل، وهو موقف قد ينطوي ضمناً على «رفض» لأفكار هذه الفئة أو عقائدها أو سلوكياتها، ولكنه ينطوي أيضاً على «السماح» لهذه الفئة باعتناق عقائدها وممارسة سلوكياتها، وهو موقف مختلف تماماً عن مبدأ «الحرية الدينية» اللاحق، الذي يتضمن نوعاً من المساواة بين كل العقائد، أو على الأقل اللامبالاة تجاهها جميعاً. ومن الواضح أن مبدأ «السماح» لا يتساوى أبداً مع «القبول» .. فهو ينطوي على تقييم معين، فيه سلبية نوعاً ما، ولكن فيه أيضاً تجاوز وعفو، فالتسامح هنا يمتلك شروطه الداخلية، قد تختلف هذه الشروط من مجتمع إلى آخر، إلا أنه ليس في وارد الدخول إلى خانة المطلق، وقد انتبه فيلسوف مهم مثل كارل بوبر إلى أن هناك حدوداً للتسامح يجب الانتباه إليها، وإلا فإنها ستقود المجتمع الذي تسود فيه ثقافة التسامح إلى الانهيار بالذات، فإن عدم التسامح، مع أولئك الذين لا يؤمنون بالتسامح (النازية مثلاً في مثال بوبر) يدل على وجود «حدود» افتراضية لفكرة التسامح، وكارل بوبر ليس سلفياً، ولا ممن يسمونهم المتشددين، لكنه ينبه هنا إلى وجود شفرة اجتماعية داخلية لا ينبغي التضحية بها تحت شعار التسامح، علماً أنه هنا يتحدث عن «التسامح»، وليس عن «القبول» بالشكل المفتوح الذي يروج له عندنا .. والحقيقة أن فهم السياق التاريخي لنشوء فكرة التسامح بمفهومها الغربي، والجدل الدائر حتى ضمن المنظومة الغربية، يجعلنا أكثر تشككاً تجاه ما يروج لقبول الآخر، فموكب الزفة الإعلامية المصاحبة للمفهوم لا يجعلنا نفكر أو حتى نتساءل من هو هذا الآخر؟ هل هو الآخر الذي احتل بلدي؟ هل هو الآخر الذي يتربص بي وبأولادي وبقيمي؟ هل هو الذي شرد الملايين؟ هل هو الآخر الذي انتخب رئيساً فعل كل كله؟ هل هذا الآخر هو منظومة القيم التي شرعنت ذلك كله؟ هل هو الآخر الذي وقف معي ضد هذا كله، وخرج بالملايين محاولاً منع ما وقع فعلاً؟ أم هل هو الآخر الذي وجد نفسه محايداً تماماً كما لو أن الأمر لا يعنيه؟ هل المقصود بالآخر هو إيجابيات العلم والتنمية والرفاهية التي أنتجتها؟ لكن ماذا عن التفاعلات الثانوية لذلك؟ ماذا عن سلبيات الحداثة؟

لا أستطيع إلا أن أقرّ بوجود إيجابيات للآخر، إيجابيات مهمة ويمكن أن تساعدني في مشروعي ونهضتي وفهمي وأدائي لهما، لكن مع هذا يجب ألا يغيب عن بالي وجود «سلبيات» لهذا الآخر، والتمييز بين ما هو إيجابي وما هو سلبي لا ينتج عن «قبول الآخر»، بل عن «معرفته»، وفرق كبير بين «معرفة الآخر» التي تتضمن رؤية نقدية متفحصة للآخر بإيجابياته وسلبياته، وهي هنا جزء من إشارة الآية إلى «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» –الحجرات: 13، وبين قبول للآخر كما هو، وتقبله دون تقييم كما توحي النغمة المروجة للقبول ..

ولكن الأخطر من هذا كله، هو أن الاستخدام الفلسفي لمصطلح «الآخر»، الذي تأسس على يد «هيغل»، كان يؤسس ضمناً لنظرة أخرى أكثر قرباً من الحقيقة، وأبعد عن نغمة الترويج الوردية، فالآخر عند هيغل، في (ديالكتيك السيد–العبد) كان يرمز للعبد، بينما كانت الذات تمثل السيد المنتصر، صحيح أن استسلام العبد للسيد -حسب هيغل- هو الذي جعل من السيد سيداً، وإن الخادم صار جزءاً من السيد، أي إن السيد يحتاج الخادم، وإن الآخر هنا صار جزءاً من الذات، لكن اللحظة الهيغلية هنا هي لحظة ما قبل الاستعمار، والسيد الهيغلي كان مهذباً بالمقارنة مع ما حدث بعدها، والمقارنة هي بين المفكر الفرنسي فرانز فانون، وفديالكتيك الذات والآخر، عند هيغل هو في تكامل حتى لو كان بين السيد والعبد، أما ديالكتيك الذات والآخر في لحظة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير