تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البيانِ والتباهي بأساليبِ البلاغةِ المُطربةِ. فهو فذٌّ نادرُ المثالِ، كادَ أن يهلكَ خبرهُ ويذهبَ في طيِّ النسيانِ، لولا أن تداركَ اللهُ هذا النِتاجَ، فحفِظَ لنا شيئاً من روائعِ أدبهِ وإنشاءهِ، ثمَّ حمانا اللهُ تباركَ وتعالى مرّةً أخرى بضياعِ كُتبهِ الفاسدةِ وآراءهِ الزائغةِ، تلكَ التي تحوي تخليطاً وانحرافاً عن طريقِ الحقِّ ودعوةِ الرسلِ، فالتوحيديُّ على براعتهِ في الأسلوبِ وعلوّهِ في البيانِ كانَ مُخلّطاً في العقيدةِ، يهذي فيها هذيانَ الفلاسفةِ ويهيمُ على طريقةِ الصوفيّةِ المنحرفةِ، كذوباً ذا انتحالٍ لدرجةٍ لا توصفُ، فهو يكذبُ ويعفّي أثرَ كذباتهِ حتّى تخالهُ صدّيقَ العالمينَ، حسوداً حقوداً، مُلئَ قلبهُ بُغضاً وغلاً، بارعاً في التصنّعِ والمنافقةِ والرّوغانِ. وقد سترَ على نفسهِ سوءةَ كلِّ ذلكَ بقلمٍ ملكَ بهِ أزمّةَ البيانِ وأخذَ يُصرّفهُ كيفَ شاءَ، يضعُ نفسهُ تارةً في مكانِ العظماءِ فتخالهُ من بقايا الحكماءِ الأوائلِ، وحيناً يأخذُكَ إلى عوالمِ المجونِ ودوائرِ المتعةِ فلا تشكُّ لحظةً أنّهُ ثملٌ لا عقلَ معهُ، وأخرى يتخاشعُ بينَ يديكَ ويأسرُكَ بأخبارِ الوعّاظِ والنُسّاكِ وأهلِ الزهدِ فيبهتُكَ الحالُ وتبقى واجماً، لشدّةِ ما ترى من المتناقضاتِ، وتكتملُ فصولُ الحيرةِ بكَ حينَ تقرأ كلامهُ في العلومِ التجريبيّةِ والكيمياءِ والهندسةِ والفلكِ، فترى منهُ عجباً يشدهكَ. هذا هو أبو حيّانٍ، رجلٌ كثيرُ الإزراءِ على نفسهِ وعلى الخلقِ، خمولٌ إلى حدٍّ لا يوصفُ، يبحثُ عن ذاتهِ في المالِ والمكانةِ فيُحرمُ ذلك كلّهُ ويعملُ أجيراً عندَ من لا يستحقُّ هو أن يكونَ أجيراً عندَ أبي حيّانٍ، ثمَّ تضيقُ عليهِ دروبُ الزمانِ وتقلّباتِ الدهرِ، حتّى تسلمهُ إلى الجزعِ ومقتِ النّاسِ، ومع أنّهُ لم يحظَ بمكانةٍ أو منزلةٍ إلا أنّهُ يجدُ في نفسهِ نرجسيّةً طاغيةً، وحسّاً بالعظمةِ يتضاعفُ مع مرِّ الوقتِ، وبمقدارِ ما يتضاعفُ ذلكَ في داخلهِ يكونُ سقوطهُ في نظرِ أصحابهِ ونُظراءهِ. هذه سنّةٌ بغيظةٌ جرى عليها بعضُ النّوابغِ، حينَ يُلزمُ أهلَ زمانهِ برعايةِ حالهِ وصيانةِ نفسهِ وتوقيرهِ ومراعاتهِ، وحينَ يستطيلُ عليهم بفضلِ نباهتهِ وعقلهِ، ويرى في نفسهِ مُخلّصاً لهم، وبارعاً بينهم، فإن لم يجدْ فيهم ما كان يبحثُ عنهُ من الإعزازِ والإجلالِ والمكنةِ، قلبَ لهم ظهرَ المجنِّ، وسفّهَ فيهم ونكّلَ، لاسيّما إن حُرمَ حظّهُ من الدّنيا، وهو يراها تُبذلُ لمن هو دونهُ وأنزلُ منهُ قدراً في نظرهِ، وقد رأيتُ هذا كثيراً في الأدباءِ، كما هو الحالُ مع المتنبيِّ وأبي حيّانٍ وآخرينَ. ثمَّ أنَّ أبا حيّانٍ على كلِّ هذا لم يصُنْ نفسهُ، فعرّضها للابتذالِ بالجشعِ والطمعِ وحبِّ العلوِّ، وبذلَ وجههُ ونفسهُ وعلمهُ بحثاً عن مكانةٍ أو جاهٍ أو طعامٍ، يسألُ هذا، ويستجدي ذاكَ، فحُرمَ ذلك كلّهُ، واستعاضَ عن مطامحهِ ومطامعهِ بحقدٍ عميمٍ ونفسٍ محبطةٍ وعيشةٍ بائسةٍ، جلّلَ بها أهلَ زمانهِ، ولشدّةِ ما بلغَ بهِ حقدهُ عليهم قامَ بإحراقِ كتبهِ وحرمانِ النّاسِ منها، فهم في نظرهِ أحقرُ من النظرِ فيها. ههنا نصٌّ من فاخرِ النصوصِ العربيّةِ وأكثرِها دقّةً في سبكِها ونِظامها، كتبهُ أبو حيّانٍ في آخرِ حياتهِ، آيساً من الخلقِ، ناقماً عليهِ، وقد اختمرتْ قريحتهُ واستوى أدبهُ وتكاملتْ صنعتهُ، فجمعتْ خصائصَ نثرهِ الفنّيّةَ، وفيها أيضاً لمحاتٌ واضحةٌ من حياتهِ ومن نفسيّتهِ المحبطةِ، فهي تصلحُ أن تكونَ – على صغرِها – حكماً فصلاً على أبي حيّانٍ، ومن كلامهِ شخصيّاً، كما أنّها فيصلٌ في إثباتِ نبوغهِ في النثرِ والإنشاءِ، وامتلاكهِ ناصيةَ ذلك دونَ تكلّفٍ أو تزويقٍ. يقولُ أبو حيّانٍ مُلخّصاً بؤسهُ ومنتهى يأسهِ من الخلقِ، ومُعلّلاً سببَ إحراقهِ لكُتبهِ- وهي رسالةٌ كتبها إلى القاضي أبي سهلٍ علي بن محمّدٍ -: " حرسك اللهُ أيّها الشيخُ من سوءِ ظني بمودتك، وطولِ جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعاً مما يسوّدُ وجهَ عهدٍ إن رعيناهُ كنا مستأنسينَ بهِ، وإن أهملناهُ كنّا مستوحشينَ من أجلهِ، وأدامَ اللهُ نعمتهُ عندكَ، وجعلني على الحالات كلها فداكَ. وافاني كتابك غير محتسبٍ، ولا متوقعٍ، على ظمإ برّحَ بي إليهِ، وشكرتُ اللهَ تعالى على النعمةِ بهِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير