تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عليَّ، وسألتهُ المزيدَ من أمثالهِ الذي وصفت فيهِ- بعد ذكر الشوقِ إليَّ، والصبابةِ نحوي - ما نالَ قلبكَ والتهبَ في صدركَ، من الخبرِ الذي نمى إليكَ، فيما كان مني من إحراقِ كتبي النفيسة بالنارِ، وغسلها بالماءِ، فعجبتُ من انزواءِ وجهِ العذرِ عنك في ذلك، كأنّك لم تقرأ قوله جل وعز: ((كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجههُ، لهُ الحكمُ وإليهِ ترجعونَ)). وكأنّكَ لم تأبهْ لقولهِ تعالى: ((كلُّ من عليها فانٍ))، وكأنّك لم تعلم أنّهُ لا ثباتَ لشيءٍ من الدنيا، وإن كان شريفَ الجوهرِ، كريمَ العنصرِ، ما دامَ مقلّباً بيدِ الليلِ والنهارِ، معروضاً على أحداثِ الدهرِ، وتعاودِ الأيامِ. ثم إني أقولُ: إن كان - أيدكَ اللهُ - قد نقبَ خفكَ ما سمعتَ، فقد أدمى أظلي ما فعلتُ، فليهُن عليك ذلك، فما انبريتُ لهُ، ولا اجترأت عليهِ، حتى استخرتُ اللهَ عزَّ وجلَّ فيهِ أياماً ولياليَ، وحتى أوحى إليَّ في المنامِ بما بعثَ راقدَ العزمِ، وأجدَّ فاترَ النيةِ، وأحيى ميتَ الرأي، وحثَّ على تنفيذِ ما وقع في الروعِ، وتريعَ في الخاطرِ. وأنا أجودُ عليكَ الآن بالحجةِ في ذلكَ إن طالبتَ، أو بالعذرِ إن استوضحتَ، لتثقَ بي فيما كان منّي وتعرفَ صنعَ اللهِ تعالى في ثنيهِ لي. إنَّ العلمَ - حاطك اللهُ - يُرادُ للعملِ، كما أنَّ العملَ يُرادُ للنجاةِ، فإذا كان العملُ قاصراً عن العلمِ، كان العلمُ كلاً على العالمِ، وأنا أعوذُ باللهِ من علمٍ عاد كلاً، وأورثَ ذلاً، وصارَ في رقبةِ صاحبهِ غلاً. وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار. ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته. فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا. على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله ولاشك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حبيبا وصاحبا قريبا وتابعا أديبا ورئيسا منيبا فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟. فجوابي لك: أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته، بما قدمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل. وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة أو رجاء لحال جديدة ألست من زمرة من قال القائل فيهم: نروح ونغدو كل يوم وليلة ********** وعما قليل لا نروح ولا نغدو

وكما قال الآخر: تفوقت درات الصبا في ظلاله ******** إلى أن أتاني بالفطام مشيب

وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان. والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم والنفس تستنير بقربهم فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري وما والى هذه المواضع وتواتر إلي نعيهم واشتدت الواعية بهم فهل أنا إلا من عنصرهم وهل لي محيد عن مصيرهم أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه إنه قريب مجيب. وبعد فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم منهم أبو عمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير