تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الطائي وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة ويقال له تاج الأمة طرح كتبه في البحر وقال يناجيها نعم الدليل كنت والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه فلما عوتب على ذلك قال دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال والله ما احرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفا. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار. وماذا أقول وسامعي يصدق أن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك لزمان تدمع له العين حزنا وأسى ويتقطع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجى وما يصنع بما كان وحدث وبان إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل والله تعالى شاف كاف وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس إلى أن تفي الأنفاس بعد الأنفاس: ((ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)). فلم تعنى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج وهوى بصاحبه إلى الهبوط. وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي وإلا بالرضا بالميسور وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟. هيهات الرحيل والله قريب والثواء قليل والمضجع مقض والمقام ممض والطريق مخوف والمعين ضعيف والاغترار غالب والله من وراء هذا كله طالب نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره. ثم إني أيدك الله ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهدا في محبتك على قربك ونأيك مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس ولكني حرست منك ما أضعته مني ووفيت لك بما لم تف به لي ويعز علي أن يكون لي الفضل عليك أو أحرز المزية دونك وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك وأعظم تعجبك وحشد عليك جزعك والأول يقول:

وقد يجزع المرء الجليد ويبتلي ********* عزيمة رأي المرء نائبة الدهر

تعاوده الأيام فيما ينوبه ******** فيقوى على أمر ويضعف عن أمر

على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقة لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جل وعز في خلقه أحكاما لا يعاز عليها ولا يغالب فيها لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها وهو تعالى أملك لنواصينا وأطلع على أدانينا وأقاصينا له الخلق والأمر وبيده الكسر والجبر وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر والسلام. إن سرك جعلني الله فداك أن تواصلني بخبرك وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقيا يسر النفس ويذكر حديثنا بالأمس أو بفراق نصير به إلى الرمس ونفقد معه رؤية هذه الشمس والسلام عليك خاصا بحق الصفاء الذي بيني وبينك وعلى جميع إخوانك عاما بحق الوفاء الذي يجب علي وعليك والسلام. وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة. ثُمَّ أمّا بعدُ: فهذهُ درّةٌ يتيمةٌ خالدةٌ، من أروعِ وأبدعِ ما خطّهُ أبو حيّانٍ، بل هو واللهِ من أروعِ فصولِ النثرِ في صناعةِ البيانِ العربيِّ، تصلحُ أن تكونَ مدرسةً في الأسلوبِ، حوتْ خصائصَ نثرِ أبي حيّانٍ، وجمعتْ أصولَ فكرهِ وطريقةَ حياتهِ ونِظامَ عقلهِ، من قرأها ووعاها ولحظها بعينِ التأمّلِ فقد انفتحَ على أبي حيّانٍ وتصوّرَ حالهُ، ومن أعطاها حقّها من العنايةِ وسلكَ على دربِها في الأسلوبِ والمحاكاةِ فقد رُزقَ حظّاً وافراً من صنعةِ الأدباءِ. وشكرنا لأبي حيّانٍ على إخراجِ هذه الصياغةِ المذهلةِ، والتركيبةِ العجيبةِ من الكلامِ، لا يقلُّ عن تقديرِنا وشكرنا لياقوتَ الحمويِّ، فقد حوى في كتابهِ ما تغافلَ عنهُ من قبلهُ من الأدباءِ والمؤرخينَ من ذكرِ سيرةِ هذا الطودِ الشامخِ من أعيانِ الأدباءِ، فقد كانوا يغضونَ الطرفَ عنهُ وعن سيرتهِ ونِتاجهِ، مع أنّهُ أوحدُ الدّنيا في ذلكَ، حتّى جاءَ ياقوتُ من عالمِ الغيبِ فانبرى لجمعِ روائعهِ وروائعِ غيرهِ. هذا هو تراثُنا، وهؤلاءِ هم علماؤنا وأُدباؤنا، وهذه صفحاتٌ ناصعةٌ من ذلك سيرةِ ذلك الجيلِ العظيمِ، نفتحها اليومَ علّها تجدُ همّةً منبعثةً فتفتحُ لها الآفاقَ وتُدني لها السبيلَ.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير