ولذا فمن له عقلٌ بَصيرٌ ورأيٌ سديدٌ يجِد عظمَ المصائب والفتَن التي وُجِدَت في هذه الأمّة عبر تأريخها إنما ترجع في أصلها ولو من طَرْفٍ خفيّ إلى الإفراط والتفريط أو الغلوّ والتقصير في الهديِ النبويِّ الرشيد والمسلَك السّلفيِّ السديد، وما تفرَّقت الأمّة أحزابًا وشيَعًا إلاّ بسبَب التنكُّبِ عن الصراط المستقيم والهديِ النبويّ الكريم، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، قال مجاهد وغيره: "هذه لأمّة محمد ".
أتباعَ محمد، نبيّنا عليه أفضلُ الصلاة والسلام حَريصٌ على أمّتِه مشفِقٌ عليهم رَحيمٌ بهم، حذَّرهم من الابتِداع أشدَّ التحذير، وأوصاهم باتّباع سنّته وسنّة خلفائه الراشدين؛ فلا تخالفوا أمرَه، ولا تنتهِجوا غيرَ نهجه، تمسَّكوا بهديه، واستنّوا بسنّته؛ يكن منهجُكم سويًّا سليمًا وصحيحًا مستقيمًا، في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، قال العلماء: "وهذا الحديث ثلُث العِلم لأنّه جمع وجوهَ أمرِ المخالفَة لأمره ".
ويوجز لنا مَكمَن الخير ومستَودَع السلامة والأمنِ، فيقول فيما صح عنه: ((علكيم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ)). وفي هذا الحديث يوضّح المصطفى أصلَ الشرّ والفساد فيقول محذِّرًا: ((وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبته يوم الجمعة: ((أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ رسولِ الله، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة)) خرجه مسلم.
أيها المسلمون، وعلى نهج السنة والهدَى سار سلفنا الصالح من صحابةِ رسولنا وأتباعهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين من أهل الحديث والأثَر، فهم بالوحيَين مستمسِكون، وعن غيرهما حائدون، وبذا فازوا بحُسن الثنَا وعظيمِ السيرةِ والهدى، أجمعَت أقوالُهم على ذمِّ البدَع والنهي عنها والتحذير من عاقبَتها وسوء مصيرها.
فهذا صِدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه يقول: (إنما أنا متّبِع، وليس بمبتدع، فإن استقمتُ فتابِعوني، وإن زغتُ فقوِّموني)، وفي سنن أبي دواد عن حذيفة رضي الله عنه: (كلُّ عبادة لا يتعبَّدُها أصحابُ رسول الله فلا تعبَّدُوها؛ فإنَّ الأوّل لم يدَع للآخرِ مقالاً).
كُلّيةٌ مُجْمَعٌ عليها، وأصلٌ متَّفقٌ عليه بينَهم رضي الله عنهم، قال أنس رضي الله عنه: (اتَّبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم)، وينبِّه حبرُ الأمّة ابن عباس رضي الله عنهما على لزوم الاتّباع والحذَر من الابتداع فيقول: (عليكم بالأثر، وإياكم والبدَع، فإنَّ من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمضِ به سنة رسول الله لم يدرِ ما هو عليه إذا لقِيَ الله عز وجل)، وكان رضي الله عنه يوصي من لقِيَه بتقوَى الله والاستقامةِ والاتّباع وترك الابتداع.
وها هم التابعون لهم من أهلِ الحديث والأثَر يأخذون منهَجَهم ويرتَسِمون خطاهم، فعن غير واحد منهم: "صاحِب البِدعة لا يَزداد اجتهادًا من صلاةٍ وصيام إلا ازدَاد من اللهِ بُعدًا".
واسمع ـ أخي المسلم ـ لجهبذ من جَهابِذة الحديث وعلَم من أعلام السنّة المطهرة، إنّه ابن المبارك إذ يقول: "اعلم أُخَيّ، إنَّ الموتَ كرامةٌ لكل مسلم لقيَ الله على السنة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتَنا وذهابَ الإخوان وقِلّة الأعوان وظهورَ البدَع، وإلى الله نشكو عظيمَ ما حلَّ بهذه الأمة من ذهابِ العلماء وأهلِ السنة وظهور البدع".
ومن محاسِن كلامِ العلماء قولُ بعضهم: "اختلاف الناسِ كلِّهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكلِّ واحدٍ منها ضدّ، فمن سقَط عنه وقع في ضدِّه: التوحيد وضدُّه الشّرك، والسنة وضدّها البدعة، والطاعة وضدها المعصية". وما أروع كلامَ الجنيد حين يقول: "الطرُقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلا على من اقتفَى أثرَ الرسول، ولا مقامَ أشرف من مقام متابعةِ الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه".
¥