أيّها المسلمون، البِدعة ما أُحدِث في الدين على خلافِ ما كان عليه النبي والأربعةُ الخلفاء الراشدون، إمّا بالاعتقاد بخلاف الحقّ الذي دلّ عليه الكِتاب والسنّة، وإمّا بالتعبُّد بما لم يأذَن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة، وليس في الدين بدعةٌ حسنة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فقوله: ((كل بدعة ضلالة)) مِن جوامع الكَلِم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدّين، فكلّ مَن أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجِع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء ذلك في مسائِلِ الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة"، وما أجمل قولَ إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: "من ابتدَع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمّدًا خان الرسالة؛ لأنّ الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
عُلماءَ الإسلام ودعاةَ الخير، العِلم أمانة أنتم مطالبون بأدائها وإظهارها، وإظهارُ العلم هو إظهارُ السنة والدّعوة إليها بكلِّ ممكن، قيل للوليد بن مسلم رحمه الله: ما إظهارُ العلم؟ قال: "إظهارُ السنة".
والتنبيه على البدَع سبيلُ الصالحين ومَنهج الصحابةِ والتابعين، وذلك بالحِكمة والموعظةِ الحسنة والموازنةِ بين الحَزم واللِّين، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلاّ الله، قد فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا، لا يرونَ الحقَّ غيره"، وما أروعَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ عند كلّ بدعة كِيد بها الإسلام دليلاً من أوليائه يذبّ عنه وينطق بعلامتها، فاغتَنِموا حضورَ تلك المواطن وتوكَّلوا على الله، وكفى بالله وكيلاً).
وتذكّروا ـ إخوة الإيمان ـ أنَّ السكوتَ من أهلِ العلم عن الإنكارِ على البدَع وأهلها يصيِّرها وكأنَّها سننٌ مقرَّرات وشرائع محرَّرات، قال الأوزاعيّ رحمه الله: "إنَّ السلف رحمهم الله تشتدّ ألسنتهم على أهل البدع وتشمئزّ قلوبهم منهم ويحذِّرون الناسَ بدعتَهم، ولو كانوا مستَتِرين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحدٍ أن يهتِك سترًا عليهم ولا يظهِرَ منهم عورَة، الله أولى بالأخذِ بها وبالتوبة عليها، فأمّا إذا جاهروا بها فنشر العلم حَياة، والبلاغ عن رسول الله رَحمة، يُعتصَم بها على مصِرّ ملحد.
ثمّ إنَّ منهجَ السلف عدمُ الإسراف في إطلاقِ كلِمة البدعة على كلِّ أحد خالَف بعض المخالفات، إنما يصِفون بالبدعة من فعل فِعلاً لا أصلَ له من الشّرع ليتقرَّب به إلى الله جلّ وعلا، فليس كلُّ عاصٍ ومخطِئ مبتدِعًا.
ومَنهج السلف رحمهم الله مع المبتَدِع مناصحتُه وإقامَة الحجّةِ عليه بكلِّ حِكمة ولين، ومتى عاند واستكبَر عن الحقّ وجَب هجرُه إن كانت بدعتُه مكفِّرة، وإن كانت دونَ ذلك فالأصل هو الهَجر إلاّ إن كانت في مجالَسَتِه مصلحةٌ ظاهرة لتبيين الحقّ والتحذير من البدعة، وإلاّ وجب الابتعاد عنه مطلقًا، فكان السّلَف رضي الله عنهم إذ هجَروا المبتدع ترَكوا السلام عليه وزيارتَه وعيادتَه.
ألا وإنَّ مِن هجرِ المبتدعة تركَ النظر في كتبِهم خَوفًا من الفِتنة بها أو تَرويجها بين الناس، إلا لمن كان عنده من العِلم والبصيرة ما يحذَر به من شرِّها.
أيها المسلمون، مِن مفهوم الولاء والبراء في الدين عدمُ تعظيم المبتدِع أو الثناء عليه مطلقًا، فهذا دَأب المؤمنين الصالحين المعتصمين بكتابِ الله المهتدينَ بهدي رسول الله.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
¥