هذا هو التحديث المطلوب إذن: انسجام بين متطلبات الحداثة (أو شروطها) وبين التدين، وهذه العبارة هي وجه آخر للقول إن التحديث هو «إخضاع الدين لشروط الحداثة»، فشروط الحداثة ومتطلباتها هي المرجع الأساس الذي يجب «قراءة النص الديني» من خلاله، ويجب لَيّ عنق هذا النص هنا، أو قطعه أحياناً، لا بأس، من أجل «انسجام التدين مع متطلبات الحداثة». وهذا هو بالضبط التشرب بعجل الحضارة الغربية في قلب من يقرأ النص، بل ويقرأ الدين كله، وجل همه هو وضعه في قالب مسبق لمعطيات الحضارة الغربية.
(ماذا لو كان التناقض حاداً وكان النص قطعي الدلالة؟ لا بأس في ذلك، سنستخدم تاريخية النص عندها ونقول: كان زمان! وتعددت الأساليب والهدف واحد).
يتحدث الدكتور الشرفي في لقاء آخر عن «التحديث من داخل المنظومة الدينية» من دون أن يخبرنا كيف .. لكن مشاركته في هذه الحوارية نموذج لما يقصده: إدخال شروط الحداثة الغربية على المنظومة الدينية بطريقة لا تبدو فيها أنها مفروضة عليها من خارجها.
يقول الشرفي، بصراحة: «لا قراءة للنص بريئة تماماً» ص27، وهو يقصد أن كل قراءة -على مر العصور- كانت تحمل، ضمناً، جزءاً من قارئها وتوجهاته ومعطيات عصره وظروفه التاريخية. وهذا صحيح ولا شك فيه. لكن هذا لا يساوي قط بين كل القراءات -لا يجعلها جميعاً في سلة واحدة بدعوى ألا قراءة بريئة- فهناك قراءة تتفاعل مع معطيات عصرها لتصل إلى المقاصد القرآنية -وتلتحم بها- وهناك قراءة أخرى، تعتبر المعطيات نفسها مرجعاً تحاول أن تخضع النص له، مهما كان الثمن .. وهكذا فإن قوله «لا قراءة بريئة للنص» ينسحب أيضاً على قراءته أيضاً بفارق أنه يحدد -بوضوح- هدفه: الانسجام مع معطيات الحداثة «الغربية».
وهكذا فإن مقدمته التي نتفق معها، حول ضرورة وجود «قراءات جديدة» للنص، تنتهي بقراءة «انسلاخية» من النص ومن مقاصده: قراءة «إلغائية» للنص بالكاد تسمى قراءة.
ما الذي سيبقى مما نعرفه من الفقه من جرَّاء هذا التحديث الذي يتحدث عنه الشرفي؟
سيسأل الشرفي نفس السؤال وسيجيب بنفسه: «جوابنا، من دون أدنى مواربة، هو: لا شيء!» ص71.
هذا «اللا شيء» الناتج عن «تحديث» قراءة النص سيطبقه الدكتور الشرفي ليصل في قراءته الإلغائية إلى إلغاء «الشعائر والعبادات». وهو مجال أشهد أن زملاءه كانوا يتجنبونه على الأقل، إن لم يكونوا يؤكدون دوماً ألا مساس به: كانت قراءتهم الإلغائية قد ألغت الحجاب والمواريث والحدود ومفهوم السنة النبوية لكنها وقفت عند العبادات وقالت، لأسباب مختلفة: لا مساس!
لكن يبدو أن الشرفي يرى أن التحديث يجب ألا يقف عند حدّ معين، فهو يرى أن العبادات من «الثوابت الزائفة» و «المسلمات المغلوطة» (ص50) وأن جعلها من الأركان وتسويتها بالشهادة أمر لا دليل عليه قرآنياً (كما لو أن جعل الشهادة ركناً قد تمت تسميته قرآنياً!) (ص47)، وهوَ يأخذ -مثلا- من بعض الآثار التي تتحدث عن وجود البسملة في الصلاة والأخرى التي لا تتحدث عن وجودها دليلاً على المرونة -! - التي تميزت بها صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة، والمرونة التي يقصدها ليست الاختيار من بين هذه الهيئات التي ذكرها، بل هي مرونة تتعدى ذلك بكثيرٍ، وصولاً إلى كيفية الصلاة وعدد ركعاتها (ص50)، ذلك أن «توحيد الطقوس هو مما اقتضته سيرورة المأسسة التي خضع لها الدين الإسلامي حين انخرط في التاريخ» (ص48)، وهو أمر صار تاريخاً وانقضى بحسب متطلبات التحديث والحداثة التي ينادي بها.
فلنشاهد كيف يتعامل مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي» إنه يقول: «فهذا الحديث إن صح، وعلى فرض أنه ملزم للمسلمين في غير عصره وبيئته، لا يعني بالضرورة حصر أشكال الصلاة في شكل وحيد، وليس فيه تحريم لغير الطريقة التي صلى بها ولا إقصاء للمصلين بغيرها» انتهى (ص53).
¥