و المتتبع سيرة اليهود مع النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب الله تعالى و في سنة النبي صلى الله عليه و سلم و سيرته بأبي هو و أمي يجد أن السبب الذي منع اليهود من الإيمان بالنبي صلى الله عليه و سلم هو العلم الذي وروثوه من الرسل فظنوا أنهم بهذا العلم بلغوا مرتبه لا يصل لها غيرهم و أن النبي المبعوث في آخر الزمان لا يخرج عنهم لكمال علمهم فلما بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه و سلم من العرب كفروا به كما قال تعالى {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة89.
لذا من المستبعد أن يقول اليهود هذا ذما لأنفسهم.
الأمر الثاني: مدحهم لأنفسهم و هذا هو الحق كما هو معروف من سيرة اليهود و لما ذكرنا من أدلة من كتاب الله تعالى.
و المعلوم أن مدحهم لأنفسهم بقولهم قلوبنا غلف المراد به مدح ديني لا دنيوي و مرادهم بذلك إما أن قلوبهم لا تقبل ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم و لو كان من الحق لقبلته أو أن قلوبهم مغلفة بالعلم و الحكمة و لا تحتاج إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم.
و مما يؤيد ما رجحته بأن مرادهم بقولهم (قلوبنا غلف) هو مدحهم لأنفسهم أن الله تعالى ضرب على كلامهم بقوله (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ) كما في آية البقرة و بقوله (بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) و معلوم أن ما ضرب الله تعالى عليه باطل لا حق و هذا الباطل هو عينه مدحهم لأنفسهم بالعلم و الحكمة و لو كان قولهم (قلوبنا غلف) المراد بهم أن قلوبنا لا تعي و لا تفقه ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم ذما لأنفسهم لما ضرب الله تعالى عليه لأنهم حقيقة لم يعوا و لم يفقهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم فكيف يضرب الله تعالى على الحق.
قال ابن كثير رحمه الله (ولهذا قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون} أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال تعالى: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}.
فقول ابن كثير (ليس الأمر كما ادعوا) ينبأك أن هناك دعوى أدعاها اليهود و هذه الدعوى ردها الله تعالى ردا شديدا بقوله (بل لعنهم الله بكفرهم) هل يتصور أن هذه الدعوى هي قولهم أن قلوبنا مطبوع عليها و عليها أغلفه فلا يصل إليها الحق هذا المعنى يرده سياق الآية أشد الرد لأن ما أثبته الله تعالى عليهم و هو لعنهم و الطبع على قلوبهم هو عينه ما أثبتوه فكيف يرده الله إذا.
فلم يبق لا أن تكون دعواهم هذه هي أن قلوبهم لا تقبل ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم لكمال الحكمه و العلم و أنهم لا يحتاجون لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم لهذا السبب فهذه الدعوى هي التي تستحق الرد بل أشد الرد و هذا المعنى رده الله تعالى على اليهود عليهم لعائن الله في أكثر من آية.
قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} البقرة146
و قال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} الأنعام20
قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ تكذيبٌ منه للقائلين من اليهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ لأن قوله: بَلْ دلالة على جحده جل ذكره, وإنكاره ما ادّعوا من ذلك إذ كانت «بل» لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود.
فإذا كان ذلك كذلك, فبيّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا, ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقليلاً ما يؤمنون.)
و أما أوجه الترجيح التي ذكرها الأخ أبو مجاهد وفقه الله تعال لكل خير فلي عليها بعض التعليقات:
¥