وبعض المفسرين قدروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة. والذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النظم وأليق بمعنى الآية.
وبعد فمما يجب أن يوقن به أن هذا اللفظ كذلك نزل , وكذلك نطق به النبي صلى الله عليه وسلم , وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرأوه , وكتب في المصاحف , وهم عرب خلص فكان لنا أصلا نتعرف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالا غير شائع لكنه من الفصاحة والإيجار بمكان , وذلك أن من الشائع في الكلام أنه إذا أتي بكلام مؤكد بحرف (أن) وأتي باسم إن وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب في ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا، ليدلوا بذلك على أنهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات. فيقدر السامع خبرا يقدره بحسب سياق الكلام. ومن ذلك قوله تعالى (أن الله بريء من المشركين ورسوله) الآية 3 - التوبة. أي ورسوله كذلك فإن براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أن آصرة الدين أعظم من تلك الأواصر. وكذلك هذا المعطوف هنا لما كان (الصابئون) أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجي الإسلام لأنهم التزموا عبادة الكواكب. وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا. كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلا بعد أن تستوفي (إن) خبرها , إنما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرا. فأما تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للناظر أنه ينافي المقصود الذي لأجله خولف حكم إعرابه , ولكن هذا أيضا استعمال عزيز , وهو أن يجمع بين مقتضى حالين , وهما الدلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم , والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإن الصابئون يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبه الكل على أن عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم. فهذا موجب التقديم مع الرفع. ولو لم يقدم ما حصل ذلك الاعتبار , كما أنه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم (إن) فلم يكن عطفه عطف جملة على جملة.
والذي أراه أن ما ذهب إليه ابن عاشور أقوم مذهبا وأبين معنى وهو مؤيد بما ذهب إليه في الخزانة عند هذا البيت الذي ذكره ابن عاشور وقلب فيه استشهاد النحويين
رابعا: قوله تعالى (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) (المؤمنون:60)
القراءات في هذه الآية:
أجمع قراء المتواتر على قراءة هذه الآية الكريمة على هذا النحو الذي هي فيه. وهي هكذا مرسومة في جميع مصاحف الأمصار قال ابن جني: ومن ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وابن عباس وقتادة والأعمش "يأتون ما أتوا " قصرا.
وفي معنى ((قراءة النبي صلى الله عليه وسلم)) قال الألوسي: يعني أن المحدثين نقلوها عنه صلى الله عليه وسلم ولم يروها القراء من طرقهم.
وهذه قراءة شاذة بلا ريب لأنها لم تنقل عن أحد من القراء في القراءات المتواترة وقد نقل القرطبي عن الفراء قوله: ولو صحت هذه القراءة عن عائشة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب ‘ فيكتب (سئل الرجل) بألف بعد السين (ويستهزئون) بألف بين الزاي والواو (وشيء) بألف بعد الياء فيحتمل هذا اللفظ بالبناء على هذا الخط قراءتين (يؤتون ما آتوا) و (يأتون ما أتوا) وينفرد ما عليه الجماعة باحتمال تأويلين:
أحدهما: والذين يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقلوبهم خائفة.
والآخر: والذين يؤتون الملائكة الذين يكتبون الأعمال على العباد ما آتوا وقلوبهم وجلة , فحذف مفعول في هذا الباب لوضوح معناه كما حذف في قوله عز وجل (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) الآية 49 - يوسف، والمعنى يعصرون السمسم والعنب , فاختزل المفعول لوضوح تأويله. ويكون الأصل في الحرف على هجائه الموجود في الإمام يأتون) بألف مبدلة من الهمزة فكتبت الألف واوا لتآخي حروف المد واللين في الخفاء، حكاه ابن الأنباري قلت: والمنقول ههنا عن الفراء ليس في تفسيره عند هذه الآية وإنما الذي هناك ما نصه: حدثني مندل قال حدثني عبد الملك عن عطاء عن عائشة أنها قرأت أو قالت: ما كنا نقرأ إلا (يأتون ما أتوا
¥